مجلة المرفأ الأخير
العدد الثالث2021
كنت اعلم انك ستأتي
فؤاد حسن محمد
كنت في زيارة لجندي خدم في لواء الدبابات ،فقد أغز رفقته في الحرب الرهيبة على سوريا، أصيب في عموده الفقري ، خبر آلام المقعد ، تحول بعد إصابته إلى ختيار يمر عليه الزمن ببطء ، يتقلب من جنبه الأيمين إلى جنبه الأيسر ، وسيموت وهو لا يعرف السرعة .
قال لي ونظرات الحزن في عينيه:
- لقد قضيت أوقاتا ممتعة في الحرب .
كان في قلبي ذلك الأثر القوي الذي يتركه شاب بترت ساقاه ، لكن سلسلة لولبية من الأفكار التائهة البعيدة عن بعضها بدأت تتضارب في رأسي ، " ترى أي متعة في الحرب"؟؟
لم أسمع من قبل بهذا ،هو أمر غير مفهوم ،لا يصدق ،اتبعت وجهه الشاحب وجسده النحيل وهمهمت بكلام يعبر عن الدهشة:
- كيف
أشرق ذلك الضوء في عينيه وهو سعيد بما أصابني من تشويش، أشرت إلى حيرتي برفع حاجبي وهز رأسي ، كان عجزه يصطاد عجزي ،وكوني لم أكن قادرا على أن أكون قريبا منه ،أرسلني إلى مكان آخر،كيف تحطم الحرب الرؤى الروحية للجندي المقاتل .
لم أشك للحظة أن كلامه عاطفة ذكورية مبالغ بها ،أو إنه قمة الألم ،مزاج وخيم ،الروح السورية الجديدة.
قال لي بحزم :
- أنتم لا تعرفون شيئا عن الحرب
أغلقت فمي ، وبدون قصد وجدت نفسي أحدق في هذا الجسد المتهالك ،الذي يخفي وراءه مأساة تراجيدية ،رجل انزلق من جقجقة حقبة الصيد،
معوق يلاقي الموت بهذر ،ولم يكن العصف الذهني أن يتوقف عن ما يسببه الإبهام.
انحنى قليلا إلى الأمام ، وأخرج من تحت الفرشة الأسفنجية تقريرا طبيا ، ناولني إياه وهو يقول لي :
- تفضل اقرأ ما هو مكتوب
ما ورد أصابني في أعماق قلبي ،نسبة العجز تقترب من السبعين بالمائة حتى قراءته تثير الشفقة، وذيل التقرير بحاشية تطلب من الجهات الرسمية مساعدته ،ووثق التقرير بخاتم ممهور باسم القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة .
لكن الشيء الغير مفهوما ازدادت طلسمته ،قلت له :
- أنا في غاية الشك أن في الحرب متعة ...هات ما عندك.
حدقت عيناه المصابتان بالكآبة في مكان ما خارج الغرفة،لا لم تكن تلك العينيان على تخوم الخيال،وإن كانت فقدت تسلسل الزمن. قال:
- أعترف الآن أني معاق وأنه يلزمني ربع ساعة كي أخرج القداحة من جيبي ، رغم ذلك قضيت أوقات ممتعة .
لمع فرح في عينيه المبللتين بالحزن،وبنفس الصوت الأجش المتألم تابع
- إن أناس مثلي هم من يجب أن يكونوا في الحرب ،لأن ضميري صاف،أقول لك إنها لحظات نادرة ،غنية ،وعندما تتذكرها تشعر بالنشوة،فمثلا....
وعندما قال مثلا أنفجر بالضحك ،إذ لم يملك الصبر على تأجيل ضحكته ثانية واحدة ،لكن هذه الضحكة جافة تتطاير على جانبي اليأس والضجر، ضحكة.... ضحكة تفترقان وتتوالدان ثم تسقطان في طاسة الرعبة النحاسية.
تحرق قلبي قلت ربما أختل عقله ،تمنيت بحماقة أن أغادره قبل أن أستمع إلى شطحاته،لكني لم أذهب بل قلت له :
- واضح أنك كنت تزاحم البؤس بضحكة
- نعم هكذا يجب أن تتأقلم مع الحرب
رجل قطع نخاعه الشوكي ،وأصيب يشلل نصفي ، في ظل هكذا حالة قال" هل قلت استمتعت...إذا اسمع ":
- لماذا أقص عليك كل هذه التفاصيل ، لكني باختصار سأحكي لك كيف أنقذت صديقي الذي أصيب في المعركة.
" كان الرصاص ينهمر دلاء ،حيث حدث أن أصيب صديقي في صدره ، وهل تتصور أن يحدث هذا ،نعم إنه يحدث كثيرا في المعارك، لكن الذي لا يحدث أن تتقدم وسط النيران لتنقذ صديقك .
صرخ صرخة قوية أثارت رجولتي ،نده باسمي ،أردت أن أقفز نحوه ،ويحتمل أني قفزت قفزة واحدة ، لكن الضابط شدني من عضدي إلى الوراء وقال مؤنبا أياي :
- هل جننت ستموتان معا
- سأذهب لأن بيننا عهد أن لا يترك أحدنا الآخر.
هرعت نحوه والرصاص من كل صوب ،كان متكورا يشبه دون أن يدري قرين روحي ،أصدقك القول وأنا أزحف نحوه سرى في قلبي سر ليس الموت شيء رهيب وأن الحياة ليست قطعة نادرة ،وإن جوهرهما واحد.
عندما تلعب وأنت تحارب من أجل فكرة تنتشل روحك من الحظيرة الحيوانية، فتستمتع نعم تستمتع بأنك إنسان أيها الجار العزيز .
قال ذلك فيما راح يعدل اتكاءه على المسند ،بينما أنا أتحلل إلى أكثر من أحمق لا يملك المقدرة على التفسير.
تابع كلامه :
وأنا أزحف رأيت أرنبا أبيضا مختبئ بين الصخور الجبلية ، فبدا مثل حجرة بيضاء ، كم تمنيت لو أمتلك فروا أبيضا .
ومع ذلك تابعت التقدم ، أشم الرائحة الحلوة للتراب ،وعلى بعد مترين تمدد صديقي مجبرا على أحذ وضعية الجريح ، وقد تشكلت دوائر من الدم على بزته ، وبقعة حمراء حول جسده شاهدة على إصابة بليغة ، وعندما رآني أبتسم وهو يضع يده بيدي ،وراح ينظر إلى عيني ، ضمني إلى صدره ، تاركا صوته ينساب يطمأنينة في أذني:
- كنت أعلم أنك ستأتي لتنقذني
فؤاد حسن محمد- جبلة سوريا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق