مجلة المرفأ الأخير
العدد الرابع 2021
{ علم الجمال / لمحة تاريخية وآراء }
باسم عبد الكريم العراقي
من الصعوبة بمكان تحديد البدايات التاريخية لهذا العِلم ، وبالتالي صعوبة تحديد دلالة مفهوم الجمالية (AESTHETICISM)، فعلم الجمال
( ويعني : وصف وتفسير الظواهر الفنية )،مؤسَّسٌ على التجربة الجمالية التي تُفهَمُ بواسطة قياسات مستمَدَّة من جملة علوم اخرى كعلم النفس وعلم الاخلاق وعلم الاجتماع وعلم التاريخ وغيرها ، حيث تتشابك في مناهجها ومدلولالتها مع موضوعة ( الجمال ) بهذه الدرجة او تلك ،كما أن
الظاهرة الفنية ترجع في بداياتها الاولى الى العصور الحجرية ( الكهوفية )، حيث نشأت في حضن العادات والتجارب البشرية البدائية بما فيها من ( عرافة ) وسحر وسائر اشكال ( محاكاة الطبيعة وتقليدها )
والطقوس العبادية الاولى ، ومع نشوء الحضارات والانماط الثقافية والانسانية المختلفة وما احرزته حركة التطور ونضوج التفكير الواعي ، من اضافات نوعية للشخصية الانسانية ( من تطور في وعيه وتعميق ثقافته العامة بالاشياء ) ، دفعتها للرسوخ والتكامل في معركة ( الوجود ) ،
وقد ساهم انصهار تلك التجارب والخبرات الانسانية وتمازجت بتفاعل حي مع سائر النشاطات و ( الفعل الواعي ) للبشرية ،لتصل بعلم الجمال
الى تكاملية ( عقل / حسية ) في عصرنا الراهن ، ان المعنى اليوناني الاصل لكلمة الجمالية هو ( الذات الاستبطاني او الادراك بالترابط ) ولتوضيح هذا المعنى اقول :
اذا ما اخذنا الموسيقى باعتبارها ( ظاهرة فنية جمالية ) اساسها ( الحساب الزمني / اي البعد الوقتي بين النغمات والايقاعات الصوتية ) نجد هناك عدم وضوح وتداخل غير ظاهر لعناصرها اللحنية ، لكن الوعي ــ عبر الترابط ــ يعطي صورة مكتملة التناسق لها فيتذوقها ، اننا نستطيع تحديد
ميدان علم الجمال ، فهو ( الميدان الوسط بين ميدان المعرفة الحسية وميدان المعرفة العقلية )، ولقد ساهم الفلاسفة والمفكرون ، منذ العصر الاغريقي مروراً بالعصر الروماني ...الخ ،وصولاً للعصر الحديث ، في وضع المعالم الاساسية لذلك العلم ومنهجوا اساليبه ( أي وضعوا لها مناهجاً ) ونظّروا له ، كيما يضعوا له قواعداً وأسساً علمية تحدد وترسم له ( إطاره الآيديولوجي العام )، ورغم استعراضنا لأسماء فذة وبارزة في تاريخ الفلسفة والفكر
الانساني مثل ( هيراقليدس / صاحب اول مدرسة للجماليات في التاريخ ، ارسطو ، دافنشي ، شكسبير ، كانط ، هيجل ، ماركس ، سارتر ..وغيرهم ) ،
الا اننا نجد اختلافاً كبيراً بينهم ( يصل حد التقاطع بينهم احياناً ) في تحديد تعريف ( الجمال ) بشكل متفق عليه ومحدد الدلالة ، مما يضطرنا للتصريح ان للجمال مفهوماً ( نسبياً ) متصلاً بمتذوقه ، فما يصح ( من احكام وقياسات جمالية ) لشخص حول هذا الشيء الجميل ( أياً كان نوعه او جنسه الفني او الادبي قد تجعله يرتاح اليه ويبعث فيه حالةً من التوازن الممتع فكرياً او نفسياً ) ، قد لايصح لشخص آخر ، وهذا مبعثه ان لكل فرد ( ثقافة ووعي وفهم ) خاص به حول درجة جمالية ذلك الشيء وبالتالي مدى قبوله او رفضه وفق معاييره وقياساته الذاتية حول مفهوم الجمال ( ونعرف ان الثقافة والوعي عموماً تتحكم بهما جملة ظروف اجتماعية وتربوية وتعليمية وعوامل ميثولوجية وغيرها تختلف من أمة لآخرى ومن فرد لآخر ) مما يجعل ابناء البشر متفاوتين في درجة بحثهم عن الاشباع ( الفكر / حسي ) من الشيء الجميل عن طريق ( تحاورهم الجمالي مع ذلك الشيء الذي قد يكون لوحة تشكيلية او معزوفة موسيقية او قصيدة او اغنية ..وغيرها مما يدخل ضمن مفهوم الفن او الجماليات ) ، وكل ما أستطيعه هنا
هو محاولة ( التقريب ) بين تلك الاذواق وايجاد ( المشترك ) فأقول : ان الوصول الى لحظة ( استحسان العمل الفني ) يقتضي وجود حلقة اتصال حسية بين ( المُرسِل / الفنان ) و ( المُستقبِل / المتذوق ) ، وهذه الحلقة ترتكز على الهدف الذي يرمي اليه العمل الفني والذي يختصره السؤالان : لمن ..؟ ولماذا ..؟ ( كما ذهب بعض المفكرون ) ؛ الاول ــ لمن يُقدَّم هذا النوع من الفن ( ومنه الفن الشعري مثلاً ) ..؟؟ والثاني ــ لماذا نُقدِّم العمل الفني ..؟؟
فالفن يعمل على ايقاظ ( الوعي ) في الانسان ( هذه رسالته كما اؤمن بها في الاقل ) لانه يقدم نفسه بشكل ( فكري / تصوري ) تستفزُّ العقول والحواس وتهز جذورهما وتدفعهما على التفاعل مع مكونات العمل الفني وصولاً إما لحالة ( التطهير والنقاء الذاتي ) او لحالة ( الرقي الفكري والثقافي ) ، وهنا تكمن فلسفة ( الجماليات ) التي تقوم على عاملين متحدين ؛ الاول ـ الوحدة الانسجامية التوافقية ، والثاني ـ الجانب الحس / فكري المادي و يتجسد بشكل وأسلوب معالجة الفكرة صوتياً( الموسيقى ) ،او لونياً ( الفن التشكيلي ) ، او حجمياً ( الفن المسرحي ) ، او تصويرياً ذهنياً ( الفن الشعري ) ، او فضائياً ( الفن المعماري ) ..الخ
فالفن يتحرك وسط دائرة التلازم بين الحاجة ( الجمالية ) المتجددة لدى الانسان ، وبين الافكار الفلسفية ، وعلم الجمال انما يهدف الى ( تقريب جماليات الحقيقة ) التى لايمكن ان تظهر في الصورة الواقعية المجردة ..، وبقى ان نؤمن أنّ تقنين علم الجمال ( اي وضع القوانين الجامدة له ) يتعارض مع ( روح الفن ) المتمردة والباحثة
عن كل ماهو جديد ومجسِّد لحقيقة الصراع المستعر بين ( الاضداد ) في الحياة ، وهذا يتعارض تماماً من مفهوم التقنين ، فالفن وُلِد حراً ويعيش من اجل الحرية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق