بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 8 يونيو 2019

مجلة المرفأ الأخبر العدد الرابع لسنة 2019 فنانون منسيون من بلادي الجزء الأول الحلقة العاشرة عميد المقام العراقي محمد القبانجي تقديم / علاء الأديب


 مجلة المرفأ الأخبر 

العدد الرابع لسنة 2019

فنانون منسيون من بلادي
 
الجزء الأول
 
الحلقة العاشرة
 
عميد المقام العراقي محمد القبانجي

تقديم / علاء الأديب 





التقديم :
...........
لم ولن يكون ماقمت به من جمع لأهم ماكتب عن الفنان الراحل الكبير محمد القبانجي في هذا البحث بسبب النسيان فالنسيان أضعف بكثير من أن يطال القبانجي بأي حال من الأحوال لما تركه لنا من إرث كبير في الطرب العراقي الأصيل والمتمثل بالمقام العراقي .إلاّ إن ماقمت به الآن لايعدو إلا خطوة يمكن من خلالها تسهيل الحصول على معلومات أكثر عن مسيرة هذا الفنان الخالد من قبل الدارسين والباحثين والمحبين لفنه ولشخصه ليس أكثر .وأتمنى أن أكون قد وفقت ولو بنسبة فشخصيّة القبانجي لايمكن أن تحدّها حدود الصفحات. رحمه الله وأحسن مثواه.
علاء الأديب.



الأسم :
........
هو محمد بن عبد الرزاق، لقب بالقبانچي وهو لقب يطلق على من يمتهن مهنة وزن المحاصيل بالقبان وهي كانت مهنة والده وقد عمل بها في صغره .



الولادة :
..........
ولد القبانجي سنة 1901 في بغداد محلة سوق الغزل واخذ اصول المقام من والده المرحوم عبدالرزاق القبانجي الذي كان يهوى المقام ويقرأه لنفسه وللمقربين منه وكان حينها يعمل قبانجيا في الاكخانة الواقعة في شارع المتنبي في حقبة الحكم العثماني ومنها جاء لقبه.



أسرة القبانجي :
.....................
تحدّث حمودي الوردي عن أسرته فقال: هو أبو القاسم محمّد بن عبد الرزاق بن عبد الفتاح يرقى نسبه الى قبيلة (طي) وقد أنسجم الاسم الجليل (محمّد) مع شخصيته، حيث أصبح فيما بعد في عداد الفنانين العظام، أما جدّه فهو عبد الفتاح من سكنة مدينة (الموصل). ولد محمّد القبانجي في الثامن والعشرين من شهر كانون الثاني سنة 1907 في جانب الرصافة من بغداد (وقد أختلف الاراء في تاريخ ميلاده، ما بين 1897 الى تاريخ 1907، ولكن الاعتقاد الأرجح أن الميلاد الدقيق هو 1901). تزوج بابنة عمّه عبد الجبار الذي شمله برعايته وتوجيهاته الحكيمة وقد رزقه الله منها ولدين هما (قاسم وصبحي) وعدداً من البنات، اما عن كنيته وملامحه فقال: كنيته (أبو قاسم) نسبه الى ابنه الكبير، أما لقبه فهو (القبانجي- الكبنجي) وهو لقب عائلته، إذ كان معظم رجالها يزاولون التجارة وحرفة كيل الطعام بالقبّان (الكبّان)، وهو طويل القامة ولونه أبيض مصحوب بإحمرار، ذو محيا بشوش وثغر لا تفارقه الابتسامة وله مظهر وقور يبعث في نفوس الناظرين إليه الغبطة والانشراح والمهابة والاحترام، وله صوت موسيقي النبرات، وبوسعه أن يرفعه فيصدح صداح البلبل، أو أن يخفضه فيبدو غليظاً رصناً، وقد أحرز بصوته الفريد قصب السبق في جميع مجالات الغناء في العراق وانتشر له صيت بعيد، وهذه الصفات الحميدة والمواهب الفريدة جعلته يعيش سعيداً مرفّهاً، وكان فضل الله عليه عظيماً، ولم تكن له إقامة في مكان واحد، ففي بادئ الأمر كان مقيماً مع عائلته في محلة شعبية تدعى (سوق الغزل) بجانب الرصافة من بغداد، ثم انتقل منها الى محلة (حمام المالح) وبعد فترة قصيرة عاد الى محلته الأولى ومنها الى محلة (صبابيغ الآل) وهناك توفي والده وتوفيت شقيقته (صبيحة) فتألم كثيراً، وباع هذه الدار بثمن زهيد وشدّ الرحال الى محلة (السنك) ومنها الى كرادة مريم، ولكنه ألقى عصا الترحال بداره الجديدة في حي (الحارثية) بجانب الكرخ من بغداد بالقرب من مسجده الذي شيّده على نفقته الخاصة. كان منذ طفولته يستمع الى الأرقام والأسعار في التجارة والقبانة



بدايات القبانجي
.................

وبعد ان ترك القبانجي الدراسة اخذ يعمل في علوة عمه كقبانجي وكانت تسمى حينها (علوة جبر) الواقعة في منطقة الشورجة. وبعد ان اصبح (قبانجيا) في خان الشابندر في الشورجة اخذ يتردد على مقهى اغلب روادها هم من المغنين والموسيقيين من بينهم قدوري العيشة وسيد ولي ورشيد القندرجي ومحمود الخياط حيث كان يستمع لهم بشفغ وينصت لادائهم وكان قد توثقت في حينها صداقة مع الاستاذ قدوري العيشة اذا كان في حينها الوحيد الذي يجيد القراءة والكتابة من بين قراء المقام من جيله وذلك ما جعل حفظه للشعر يزداد وتتسع دائرة معلوماته قياسا بزملائه وكان القبانجي يقول عنه : (كان العيشة يدندن ويلحن ويغني وانا اقرأ له الشعر من نظمي وكان العيشة يستفيد مني في هذا المجال فيما استزدت من حفظ الشعر قبل الغناء وصولا لتحقيق حلمي في ان اكون مغنيا وقارئا للمقام على اساس جديد.


القبانجي بدأ بالغناء الصوفي
.................................
بدأ بالغناء الصوفى والاذكار وبدأ بتسجيل المقامات في عام 1925م، وسجل جميع المقامات وكان مبدعا فيها، وقد طور البستة العراقية،
كان يقيم حفلات المنقبة النبوية وشاركه في كثير منها الحافظ مهدي العزاوي ومن ابرزها التي أقامها في قاعة الملك فيصل الأول مع الأستاذ الحافظ مهدي العزاوي بمناسبة حفل ختان أولاد الزعيم نور الدين محمود سنة 1948.




القبانجي والتمثيل :
........................
في أيام شبابه مارس مهنة التمثيل المسرحي وكان أحد ممثلي أول فرقة مسرحية عراقية، اسسها الفنان حقي الشبلي في عام 1927 بإسم الفرقة التمثيلية الوطنية، ومثل معه الفنان أحمد حقي الحلي والفنان عزيز علي وغيرهما من رواد التمثيل والمسرح في العراق، ولقد قدمت الفرقة كلاً من مسرحية وحيدة، ومسرحية صلاح الدين الايوبي، ومسرحية جزاء الشهامة.



القبانجي أول قارئ مقام عراقي :
.....................................
وكان في العشرينات قد بدء يطرح نفسه كقارىء مقام وقد لاقى استحسان استاذه العيشة ووالده وزملاءه المقرئين بالرغم من ان البعض قد اتهمه بالخروج عن قواعد المقام الا ان طموحه وبحثه دفع به الى الشهرة وكان اول من مقرىء عراقي سجلت له احدى الشركات اسطوانات وكان ذلك خلال الاعوام من 1926 الى 1929 بعدها سافر الى المانيا وسجل مقامات لم تكن معروفة انذاك مثل حجاز كار النهاوند وحجاز كاركرر. و القبانجي اول قارىء مقام عراقي تسجل له اسطوانة وهو اول من ادخل النهاوند في البيات.



ويقول القبانجي عن اسلوبه في الاداء :
................................................

(باختصار ان طريقتي تعتمد الكلام المتميز واللحن المطلوب حتى اصبح غير المألوف عند القراء القدامى مألوفا جدا وقد اخترت عند تسجيلي المقامات على الاسطوانة سنة 1926 نماذج من انغام الحسيني قلت في مطلعها:
جاد الحبيب بما اردم وياحا
فجنيت من وجناته تفاحا
اتبعتها بمقامي - الاوج والرست واصبح عددها 26 اسطوانة ارضت من خلالها سنة عملي وفي عام 1929 سجلت حوالي 80 اسطوانة حاولت الشركات انذاك وهي ثلاثة: ( بيضانون وابو الغزال ابو الكلب واريون) ان تحتكر اعمالي لسنوات قادمة لكنني رفضت الاحتكار لانه شراء للفنان) وقد تلقى القبانجي خلال سفره الى المانيا نبأ وفاة والده فتألم بشدة ونظم ابيات (ابوذية) سجلها على اسطوانة بنغم اللامي يقول مطلعها :
علام الدهر شتتنا وطرنا
عكب ذاك الطرب بالهم وطرنا
الف ياحيف ما كضينه وطرنا
ليالي اللي مضت متعود لية



القبانجي بيتدع مقام اللامي :
...............................
ابتدع القبانجي مقام اللامي وعندها فتح الباب امام الشعر الشعبي (الابوذية) لان تغنى بمقام اللامي بدون ايقاع بطريقة الاداء الانفرادي والتي تسمى بـ {الصولو}.

بعدها قدم القبانجي قصيدة جديدة غناها من مقام اللامي وهي :
متى يشتفي منك الفؤاد المعذب
وسهم المنايا من وصالك اقرب
اما منك انصاف امامنك رحمة
اما منك اسعاف اما منك مهرب
اغار الهوى عمدا علي فصادني
فأصبحت في شرك الهوى اتقلب

كما لحن وغنى من مقام اللامي أغنية {يلي نسيتونه} الشهيرة
ياللي نسيتونا يمته تذكرونا
يمته نجي عالبال وتساعدون الحال
يمته يمته يمته تذكرونا



لقاء القبانجي برامي وأم كلثوم في القاهرة :
................................................
سافر القبانجي الى القاهرة التقى ام كلثوم واحمد رامي وجرى تبادل للحديث عن الغناء والمقام والشعر وغنى المقام لام كلثوم وغنت هي الاخرى له بعض القصائد وبعدها التقى بالشاعر أحمد شوقي الذي طلب من القبنجي حينها اعادة قراءة قصيدة شمس الحي للشاعر العراقي محمد سعيد حبوبي مرتين فحفظها شوقي وطلب من القبانجي شيئا من الغناء الشعبي العراقي؟، فقرأ له قصيدة المجرشة لملا عبود الكرخي :

ذبيــــت روحـــي علجــرش
وادري الجــــرش ياذيهــا
ساعـــة وكســـــر المجرشـــة
وانعـــــل ابـــو راعيهـــــا
حينها علق شوقي على هذه القصيدة وقال {دا عتاب شريف مع الرب يأستاذ}.



المدرسة القبانجية للمقام العراقي :
..........................................

لقد أضاف محمد القبانجي الشيء الكثير الى القراءة البغدادية للمقام وابتكر بعض المقامات ومنها مقام اللامي. ويعد تجديده لأداء المقام العراقي نقلة كبيرة في مسيرة الموسيقى العراقية، واستطاع رغم مخالفيه من أنصار القديم، أن يخلق مدرسة مقامية واضحة الملامح، واستطاع تلامذته من الحفاظ عليها حتى أصبحت طريقته المثلى لدى القرّاء، ومن تلامذته الفنانون يوسف عمر وناظم الغزالي وعبد الرحمن خضر. إن اسم محمد القبانجي ظل لامعاً الى يومنا هذا، لا يدانيه اسم آخر في سماء الفن العراقي.
إن المدرسة القبانجية في تاريخ المقام العراقي، اصبحت هي المدرسة السائدة في أداء المقام لأسباب عديدة في مقدمتها تهذيب ألفاظ غير العربية المصاحبة الى عدد من المقامات العراقية، واعتماد الأصوات المناسبة للقراءة، فلا يصحّ أن يؤدّي المقام صوتاً غير مناسب بذريعة معرفة أصول المقامات لاسيّما القديمة منها. لقد ترك اللاحقون من بعده تراثاً فنياً جديراً بالتفكير والتنويه. ومن الطرائف في هذا الصدد، أن يتوفى الرعيل الأول من مقلّدي الأستاذ القبانجي وهو على قيد الحياة، أمثال ناظم الغزالي ويوسف عمر وعبد الرحمن خضر وعبد الرحمن العزاوي وسواهم .



يوسف عمر يشهد لأستاذه القبانجي :
............................................
وذكر الأستاذ يحيى ادريس: عرف الفنان يوسف عمر بعناده وكبريائه وعدم تصالحه مع جميع مطربين المقام أيامه، لأنه يشعر بتفوقه وإبداعه المتميزين. وكان يميل الى التحدي بشكل غريب فشاخ صوته تماماً.. وأذكر له حالتين، الأولى توضّح صلابة تحديه، والثانية توضح اعترافه الأخير بفضل أستاذه القبانجي. أما الأولى فكانت في أمسية للمولد النبوي الذي اشترك فيه مع الملا عبد الستار الطيار، وصوت الطيار من الأصوات النحاسية الحادة، فيأخذ المقامات من الطبقات العالية، واحسب إنه يريد أن يتميّز على قارئ المقام الذي يقرأ بنظامية وهندسة نغمية ضمن محطات متعددة للصوت البشري.. وفي هذه الأمسية أحسست أن يوسف عمر، سيخسر المنازلة والمنافسة وقد نبهّته بضرورة مراعاة صوته والتخفيف من ملاحقة الطيار فرفض تنبيهي قائلاً.. (مهما طار الطيار فسوف أحلق فوقه) وفعلاً استطاع،
لكن بمرور الأيام وبكثرة المواليد والتحدي ذهب صوته في وقت مبكر .
أما الثانية، فكانت على فراش التوديع في أحد المستشفيات، حيث قال لي جملة ..سجّل يا يحيى أنني وجميع قرّاء المقام نهلوا من الأستاذ محمد القبانجي ولم يضيفوا شيئاً جديداً، أرجوك أن لا تنسى ذكر هذه الحقيقة، وهي أني أذكرها بكل دقة لتكون ردّاً على كل من يدّعي التطوير والتغيير بعد القبانجي، خاصة من الذين يتوهمون أن خدمة الإعلام لهم كافية لطرح ادعاءات زائفة قد تنطلي على الطيبين من عشّاق المقام .



القبانجي شيّد جامعا ورفع أول ان فيه :
............................................
شيّد الأستاذ القبانجي جامعاً كبيراً ببغداد بطراز بغدادي جميل في حي الحارثية مقابل معرض بغداد الدولي، ولهذا الجامع قصة طريفة يستحب ذكرها.. إذ كانت لمطرب العراق الأول الفنان محمد القبانجي قطعة أرض في منطقة الحارثية مساحتها ألف وعشرة أمتار. اشتراها القبانجي بهدف بناء سكن له ولأسرته، فكلّف أحد المعماريين آنذاك، لوضع تصميم خاص للمنزل.. وفي إحدى الليالي رأى بالمنام بأنه يصلّي في هذه الأرض.. استيقظ صباحاً وقام بتمزيق خريطة البناء، وقرر تحويلها الى بيت من بيوت الله استجابة للنداء. أما مئذنة الجامع شيّد القبانجي هذا الجامع على نفقته الخاصة وافتتح في العام 1977 بحضور وزير الأوقاف آنذاك، وكان أول صوت يطلق من مئذنة الجامع هو صوت الفنان محمد القبانجي، إذ رفع الاذان بصوته الجهوري الرخيم، وأوصى أن يدفن في داخل الجامع فكان له ذلك. بعد أن رحل في العام 1989. وقد تولى الإشراف على الجامع ورعايته بنفسه وكان يصلي فيه كل يوم جمعة، وبعد وفاته ذهبت عائديته للأوقاف بحسب وصيته. وقد خط الشاعر وليد الأعظمي جميع الآيات التي تزيّن جدران وواجهة الجامع تبرعاً.



صدمة القبانجي بتركة للدراسة في المدرسة العسكرية :
...............................................................
وحدثت في حياته وهو طالب في المدرسه العسكريه قصة غريبة هزت كيانه بعنف. فقد كان والده يدفعه الى مواصلة التعليم حتى وصل الى مدرسة كانت معدة لتخرج الضباط والعسكريين وفجأة اخرجه والده من المدرسة قبل ان يكمل دراسته. وظن ان الاسرة قد لحقت بها خسارة فادحة في التجارة ، ولكنه وجد الاسرة تعيش في نفس المستوى المادي المعقول كما كانت تعيش من قبل ولم يلاحظ تغييراً في حالة التجارة والقبانة التي يمارسها والده، الا ان الجيش العثماني اخذوا اثنين من اخوته للخدمة العسكرية في الحرب العالمية الاولي ( السفر بر ) ولم يعودا، وافاق الشاب محمد القبانجي من الصدمة المزدوجة صدمة فقده اثنين من اخوته ، وصدمة اخراجه من المدرسة العسكرية التي كانت ستجعل منه ضابطاً ، ورويداً رويداً احس بالهدوء وبالسرور حيث أدرك أن المدرسة والخدمة العسكرية كانت ستحول بينه وبين ممارسة هوايته للغناء والموسيقى ، وبدأ يعمل مع عمه في مهنة القبانة بسوق الجملة للفواكه في (علوة جبر) الواقعة في منطقة الشورجة ، وبعد أن أصبح (قبانجيا) في خان الشابندر في الشورجة أخذ يتردد على المقاهى فأستهوته مقهى كان صاحبها اسمه قدوري العيشة المولود سنه (1861) وكان اغلب روادها هم من المغنين والموسيقيين من بينهم قدوري العيشة نفسه وسيد ولي ورشيد القندرجي ومحمود الخياط ، حيث بدأ القبنجي يجالسهم ويستمع اليهم بشغف وينصت لادائهم ، وقد توثقت صداقتة مع الاستاذ قدوري العيشة الذي كان في حينها الوحيد الذي يجيد القراءة والكتابة من بين بقية قراء المقام من جيله، وذلك ما جعل حفظه للشعر يزداد وتتسع دائرة معلوماته قياسا بزملائه ، كان القبانجي يقول عنه : (كان العيشة يدندن ويلحن ويغني وانا اقرأ له الشعر من نظمي وكان العيشة يستفيد مني في هذا المجال فيما حفظته من الشعر مما جعلني استزيد من حفظ الشعر قبل الغناء وصولا لتحقيق حلمي في ان اكون مغنيا وقارئا للمقام على اساس جديد). لقد اعجب قدوري العيشة بالشاب محمد القبانجي لسببين وهما (جمال صوته وحفظه مئات الابيات من قصائد الشعر النفيس ) فقدمه قدوري العيشة لمشاهير المطربين والمغنين من قراء المقام الذين لم يبخلوا عليه بالتدريب وشرح اصول الغناء والموسيقى في مقابل ان يقرأ عليهم القصائد التي يحفظها لكبار الشعراء .



القبانجي لم يرفض طريقة من قبله بل لم يلتزم بها:
............................................................
يروي لنا الاستاذ (ثامر العامري في صفحة 16 – 21 ) في كتابه - شخصيات عراقية - محمد القبانجي ، الذي صدر عن دائرة الشؤون الثقافية العامة في وزارة الثقافة والإعلام - سنة 1987 – بغداد...حيث يقول :
"وفي مقهى قدوري العيشة طُلبَ ذات يوم من الشاب محمد القبانجي أن يغني شيئا مما حفظه من المقامات وكان السائل هو المطرب سيد ولي و قال بالحرف الواحد:" يا محمد أنت لك خمس سنوات متابعة في هذه المقهى ماذا تعرف عن المقام نريد أن نسمعك ."
فلبى الطلب وغنى ، و بعد الإنتهاء قيل له أنك احتفظت بالجوهر و لكن لماذا لم تتبع طريقتنا في الاداء؟ فرد عليهم قدوري العيشة "أنه أحسن منا ، دعوه يغني حسب طريقته الجديدة ، وجميل أن يحتفظ بجوهر الغناء .
وعن هذه التساؤلات يعقب الأستاذ محمد القبانجي بقوله :" الحقيقة أنا لم أرفض طريقتهم في الغناء لكنني لم أتقيد بهم و كنت ولم أزل مقيماً للمطربين الذين ساروا على الطريقة القديمة للمقام البغدادي أمثال رشيد القندرجي و الحاج نجم الشيخلي و الحاج عباس طمبير و السيد جميل البغدادي" . ومن هنا تتوضح لنا أكثر فأكثر أخلاقية القبانجي وأدبه الرفيع الذي حببه إلى قلوب رواد المقهى و جلاسها من القراء و عشاق المقام على حد سواء .



التجديد الهادئ طريقة القبانجي في أداء المقامات :
............................................................

يضيف العامري في صفحة 28 من كتابه شخصيات عراقيه - مسيرة القبانجي ، يقول فيها
" للأستاذ القبانجي طريقته الخاصة المتميزة حتى في أدائه للمقامات الثابتة و المتعارف عليها وهي حالة تكمن في قراءته التي تحفزه على التجديد الهادئ بشئ من الثقة و الحذر ، حتى استطاع أن يتجاوز الكثير من العقبات و يتخطاها بخطوات واثقة ، وأستطيع القول ان القبانجي كان يعطي لكل مقام اضافات في الإنعطافات الصوتية العذبة لدرجة ان الموسيقى كانت تلهث احيانا وراء نبراته وتحويلاته الذكية التي لا يخرج بها لا على النغم ولا على أصول المقام الثابتة و تشعر وأنت تصغي اليه بانه يريد أن ينقلك إلى عوالم جديدة دون عقبات و هذا هو التجديد بحد ذاته ، وانطلاقا من هذه الحقيقة بدأ البعض و بدافع من عدم الإستيعاب – أو بدافع التزمت للمألوف بدأ هذا البعض يروج المقولات التي لا تملك الإثباتات او الشواهد والأدلة التأريخية على صحتها ، وحين نقول ان مرحلة القبانجي كانت بداية للإنطلاق بالمقام إلى حالة صحيحة معاصرة بدليل ان الأستاذ القبانجي ، استطاع بحكم حبه للمقام إلى درجة العشق و بذكاء مفرط ان يبحث عن القوالب الجديدة التي تحافظ على اصالة المقام و تضخه بدماء جديدة كانت السبب الأساس في تعلق الشباب بهذا اللون من الغناء الخالد الذي كاد أن ينقرض و تصدأ قوالبه القديمة التي يعتبر الخروج عليها خروجا على الموروث كله .



القبانجي والملا عثمان لقاء العمالقة :
............................................
تقابل العملاقان الملا عثمان والقبانجي عندما كان القبنجي فتاً يافعاً اذ حضر الملا عثمان الى بغداد بعد تنقلة بين حلب واستانبول وقليلا في الاسكندرية وبغداد وكان والد القبانجي قاريء للمقام و في احدى الجلسات حضر الفتى القبانجي و قال له الملا :" قالو عنك تعرف تغني مقام " قال له القبنجي :" نعم " ثم طلب الملا منه ان يغني ، فغنى القبانجي بصورة تخالف المعروف في القراءة فحاول البعض التقليل من غناءه فقال الموصلي :" ان محمد القبانجي سوف يتفوق على الجميع و يكون المطرب الاول لو استمر" وهذا ما حصل .



القبانجي والفن الشعبي العراقي رحلة ومغامرات :
........................................................

بدأ القبنجي يدرس الفن الشعبي العراقي ، عرف البستة ودرس القصائد واجاد المواويل ، ولم يكتف بالدراسة في بغداد والتتلمذ على ايدي كبار مطربيها بل قام بمغامرات اشبه بمغامرات الرواد والمكتشفين مخترقاً جبال الشمال والمناطق الشمالية ليستمع الى مطربيهم وباحثاً عن اصل كل اغنية شعبية مفتشاً عن كنوز الموسيقى العربية والعراقية ومع الدرس والتنقيب كان يغني فإزدادت حلاوة صوته ، ثم عادت ضغوط الاسرة تلعب دورها في حياته ، فقد تقدمت السن بوالده واعتزل العمل ثم لحق به عمه ايضا ، وكان والده وكما ذكرنا قد ضغط عليه واجبره على الزواج من ابنة عمه قبل ان يتجاوز السابعة عشرة من عمره ، وهكذا فجأةً وهو الفنان الرقيق أصبح ملتزم ومسؤول عن معيشة عائله ضخمة العدد (والده ووالدته وزوجته واربعة من الاخوة الصبيان والبنات ثم عمه واسرته.


القبانجي وشركة (هزماستر فويس) البريطانيه :
........................................................

ومن محاسن الصدف ففي سنة 1925 وصلت الى بغداد بعثة من شركة (هزماستر فويس) البريطانيه ، كان هدفها تسجيل بعض اغاني مشاهير الفنانين في العراق ، واستمع خبراء الشركة الى الكثيرين الذين كانوا يكبرون محمد القبانجي سناً ومقاماً وشهرة ، ولكهم توقفوا مبهورين وهم يسمعون صوت الشاب محمد القبانجي.. وكان في أواسط العشرينات من عمره ، فسجلت له الشركة مجموعة من الاسطوانات تفوق عدد ما سجلته للمطربين الآخرين ويبدو ان هذه الاسطوانات لاقت رواجاً كثيراً خلال السنوات الثلاث التالية فقد فوجئ محمد القبانجي بدعوة من شركة بيضافون في عام 1928 لتسجيل جميع المقامات العراقية والاغاني التي تسمى بستات في أكثر من سبعين اسطوانة بصوته فقط دوناً عن غيره من المطربين كان في السابعه والعشرين من عمره ، وكانت هذه الفرصة التي اعدها له القدر مكافأة له على اخلاصه لاسرته ووفائه لاهله فقد انتهت مشاكله المادية وعادت الاسرة لتعيش في مستوى كريم ، ونجح نجاحاً كبيراً برغم انه لم يكن قد درس الموسيقى والغناء في معهد متخصص او في اي مدرسة وكان هذا الحدث حدثا مهماً ليس في تاريخ محمد القبانجي وانما في تاريخ الموسيقى العربية والعراقية بشكل عام.


القبانجي والسلطة :
..........................
في لقاء مع القبانجي نشرته مجلة (كل شيء) عام 1964 جاء فيه على لسان القبنجي فيقول :" اول تعامل لي مع المحاكم بدأت سنه 1926 عندما أثيرت حولي ضجة مفتعلة بسبب أغنية عاطفية قادتني الى سوح العدالة التي برأتني بعد تعيين محكّمين من قبلها افتت بأنني بريء وما قلته كان صادرا عن قلب صاف عاشق معجب بآخرين ". كانت تلك بسبب أغنيته ( سودنوني هالنصارى) ، حيث عندما سجل محمد القبنجي أغنية( النصارى ) سنه 1925 مع ما سجله من مقامات وأغنيات عديده لحساب شركة هزماستر فويس، تقدم صحفيّ مسيحيّ ببلاغ يتهمه بالطائفية أيام لم يعرف العراق معنى الطائفية . هناك اجتمع المسيحيون في ( عكد النصارى ) وكتبوا بلاغاً بأسمائهم وقدّموه إلى المحكمة يعلنون وقوفهم مع القبانجي ، مما دعاه أن يردّ لهم التحيّة بأحسن منها ، ويُغنّي لهم ( أنا مغرم بالنصارى ) بنوع من الامتنان والعرفان بالجميل .



القبانجي في سفرته إلى برلين :
..........................................
في سفرته هذه الى المانيا (برلين) والتي مكث فيها ما يقارب الشهرين والنصف وذلك في سنه 1928 لتسجيل أسطوانات للمقامات والبستات العراقيه، أصطحب معه جوقاً موسيقياً حديثاً بدل الجالغي البغدادي التقليدي ، كان القبنجي مجدداً واخترق الحدود التقليديه في التلحين والأداء ، فلم يقف تجديده في المقام فقط وانما كان أول من ادخل الالات الموسيقيه الحديثه على الجوق المرافق لقراءة المقام في الحفلات العامة وفي تسجيل الاسطوانات. وكان هذا التغيير لاول مرة عندما سافر الى برلين عام 1928 لتسجيل مقامات وبستات لصالح شركة بيضفون، فصطحب معه جوقا موسيقيا حديثا بدل الجالغي البغدادي التقليدي والذي كانت الآته تقتصر على (السنطور والجوزة والرق والطبله والنقارة) ، وذلك رغبةً منه في توسع التصرف في الاداء ، وغيّر مظهر افراد الجالغي من حيث لباسهم التقليدي لجعله مستساغاً اكثر لدى مضيفيه الاوروبيين. هذه التجديدات عرضت الاستاذ القبنجي لانتقادات المحافل المحافظه التي اعتبرت ادخاله الالات الحديثة على الجوق المرافق للمقام مساً بمكانة الجالغي البغدادي الاصيل .



مناسبة إدخال الأدبوذية على المقام من قبل القبانجي :
............................................................
عندما كان في برلين ، ورده خبر كاذب عن وفاة والده الذي تركه طريح الفراش مما أثار لديه مشاعر حزينه جعلته يلوم نفسه كونه بعيداً عن والده وأستمر في التسجيل وهنا ولد مقام اللامي فقد كان يؤدي ابيات من (الابوذية) وهي شكل من اشكال الغناء مثل العتابة ومن مقام البيات واثناء الغناء خرج القبانجي عن نغم البيات المعروف ، وبعد اكمال الغناء و التسجيل ، سألوه : " مالذي غنيته" قال: " ابوذية " قالوا: " غنيته بنغم مختلف يا أستاذ" وعندما أعادوا التسجيل ودونوا النوته الموسيقيه وجدوا مقاماً جديداً اسماه مقام اللامي ، وهذا المقام في الحقيقه مقام قديم لكنه كان متروكاً ولا يستخدمة المغنين ويعود الفضل الى القبنجي في أظهاره وتنشيطه وتوسيعه ، ونشره بين جمهور المستمعين .. حيث
في برلين سجل لشركة بيضافون أغنيته // وداع القبنجي لبرلين //.



رغم شهرته لم يتخل عن مهنة والده :
.............................................

رفع القبانجي اجور حفلاته، لكنه ظل متمسكا بعدة امور منها انه لم يتخل عن القبانة فقد وجد ان نظرية والده صحيحة فالفن لايتعارض مع اي عمل شريف آخر بل العمل التجاري يجعله يصون نفسه وفنه من الانزلاق والاضطرار الى قبول ما لا يليق به وبالفن ، لذا لم يسمح لنفسه بالغناء الا في اماكن محترمة بشرط ان يكون راغبا في الغناء ويغني للفن قبل ان يغني للمادة ، وقد افلس في تجارته اكثر من مرة بسبب هبوط الاسعار خلال الازمة المالية التي سادت العالم كله بين عامي 1930 و1935 وتكفلت اسطواناته بسد احتياجات الاسرة واذا زادت ارباحه من التجارة كان هذا خيرا وبركة


لم يكن موفقا في زواجه :
................................
إن ما كان يثير احزانه وآلامه كما يقول أنه لم يكن موفقا في زواجه الذي فرض عليه وهو في السابعة عشرة من عمره وما كان يثير اشجانه دائما ان الزواج وخاصة للفنان ينبغي ان يتم بتفاهم تام وانسجام كامل. فالزوجة الحكيمة كما يقول تجعل من الرجل الجاهل حكيماً ، وهي التي تعرف متى تقترب من زوجها الفنان ومتى تبتعد عنه لتدعه غارقا ً في تأملاته وافكاره واحلامه وترمقه بنظراتها التي تبعث الحب والحنان والرضى والتشجيع في نفسه المرهفة الحس .



القبانجي من رواد التجديد :
...............................
كان القبانجي كان من رواد التجديد وصاحب الطريقه القبنجيه في المقام العراقي الذي كاد أن يفقد بريقه على الساحه الفنيه وكما ذكرنا سابقاً فقد أدخل الكثير من النغمات على المقامات مع ابتكاره لبعض من المقامات الجديده حيث تفرد محمد القبانجي في حمل رسالة دعمه و النهوض به إلى مستواه اللائق كتراث موسيقي عربي أصيل ، وأنشأ له طريقة جديدة انفرد بها و حلق في أجوائها و أخذ يعمل باجتهاد و دقة سالكا شتى الطرق ليوصل المقام العراقي إلى الدرجة التي تتلاءم معها أذواق الجماهير العراقية والعربيه على اختلاف مدنهم و أقاليمهم و اثبت لهم روعة المقام وأصالة مصدره حيث تمتع رحمه الله بالقدرة الصوتية الواسعه التي مكنته بالتنقل بين المقامات ، وهو احسن من قرأ الابراهيمي وفيه يؤدي اكثر من 100 طور بتسلسل دقيق ومحدد وقد سجل بصوته عدداً كبيراً يصعب حصره من المقامات والاغنيات ، مما جعله يستقبل بكل التقدير والاعجاب في كافه بلدان الوطن العربي ، ويصبح من كبار المطربين العرب ، ويضع المقام في ارقى المستويات بين فنون الغناء في الوطن العربي .
كان اول قارىء مقام عراقي تسجل له اسطوانة وهو اول من ادخل النهاوند في البيات ، اشتهر له في البلدان العربية مقامان تأثر بهما الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب وهما : مقام اللامي الذي تاثر به في تلحين اغنيته المعروفة // ياللي زرعتو البرتقال //.
وتأثره أيضاً بمقام حجاز غريب الذي لحن منه رائعته //جبل التوباد// .



كان كريما بصمته كريما بيده:
.....................................

في مقاله لكاتبها سمير الخالدي نقتطف منها :" كان كريماً بصمته كريماً بيده حتى ان الشاعر معروف الرصافي قال له " يا كريم اللسان يا كريم اليد فما اشد اعجابي بك " ، وقيل للمؤرخ الاستاذ عبد الرزاق الحسني كيف تؤرخ فنان من جيلك فرد على السائل " الاستاذ محمد القبنجي ربيب نفسه عصير دماغه أبدع في قراءة المقام العراقي ابداعاً كبيراً واعتمد على نبوغه في تكييف ما ينشده أعتماداً مشهوداً ، هو لم يقلد احداً ولم يأخذ عمن سبقه في هذا الضرب كثيراً ما اطرب سامعيه بصوته الرخيم وهيج المشاعر بفنه العظيم ، فأن المقام العراقي يدين للاستاذ القبنجي بما حفظه من فن المقام" ، اما الاديب المصري الدكتور زكي مبارك فيقول في كتابه الموسوم ( ليلى المريضه في العراق) :" حضرت سهرة اقامها السيد عبد الامير فوق سطح فندق العالم العربي على نهر دجله غنى فيها القبنجي مقامات عراقيه حتى أهاج ما في دجله من سمكات .


وذكر الأستاذ صافي الياسري عن المرحوم الأستاذ محمد القبانجي في مقالته :
...........................................................................................
محمد القبانجي - سيد المقامات العراقية ، قائلا :
“في تطوره اللاحق لم يعد القبانجي يكرر القوالب التي تعلمها والقصائد التي حفظها عن اساتذته، كما يفعل معاصروه من القراء، بل صار يرتجل الاداء ويتنقل بين الانغام ومقاماتها بحرية، ويختار شعرا لم يقرأه من قبل أحد، بل انه نظم الشعر بالفصحى مثلما نظمه بالعامية الدارجة، وتلك في الحقيقة ثورة لم يسبقه اليها احد ولم يأتي بعده احد وهي التي قادته الى جعل عدد من الوصلات القصيرة ذات الانغام المميزة والداخلة في مقامات اصلية في أن تكون مقامات اصلية بحد ذاتها وهي 13 مقاماً اشهرها مقام اللامي .



مشاركة الاستاذ محمد القبانجي في المؤتمر الاول للموسيقى العربيه في القاهرة 1932
.......................................................................................................
عندما قررت الحكومة العراقية قبول الدعوة للاشتراك في المؤتمر الاول للموسيقى العربيه في القاهرة عام 1932 كان قرارها مشروطا بان يكون ما يقدمه الوفد العراقي خاصا بالعراق وليس مشابها لما تقدمه وفود الدول العربية الاخرى. اي ان يكون ما يقدمه الوفد العراقي مقتصرا على المقام العراقي فقط . وقد وقع الاختيار على الاستاذ محمد القبنجي مشاركاً وحيداً في الغناء ليس فقط لاتقانه اداء المقام بل لانه خلافا لغيره من قراء المقام لم يكن يخطيء في القواعد والنحو، فقد كان شاعرا واديبا وعين رئيسا للوفد وهذا دلالة على ثقة الدولة بهذا الفنان الكبير.
وبما ان الاختيار وقع على المقام العراقي فالتخت المرافق عادةً يتكون من الجالغي البغدادي التقليدي والذي يتكون من { الجوزة والسنطور والرق والطبله والنقارة}
الا ان القابنجي وفي مؤتمر الموسيقى في القاهرة عمل على أدخال بعض الالات الموسيقيه الحديثه ، كذلك غّير في الزي الذي يرتديه العازفين ، حيث ان ملابس عازفي الجالغي البغدادي كانت تقليدية والتي غالباً ما كانوا يرتدونها في حفلات المقام التي تقام في بغداد ولم يكونوا معتادين على ارتداء الملابس الفرنجية الحديثة كما يليق بمن يحضر مؤتمرا دوليا ، وقد اقترح الاستاذ محمد القبنجي على عازف العود الاستاذ عزوري هارون ان يلتحق بالوفد، وقال له ان مهمته لا تقتصر على العزف فقط وانما واجبه الاساسي هو ان يهتم بان يظهرالعازفون بصورة لائقة ، وقد وافق عزوري على الاقتراح وادخال آلة العود وبدوره أقترح أشراك عازف القانون يوسف زعرور فالحق بالوفد. وهكذا فان من يستمع الى تسجيلات مؤتمر القاهرة يلاحظ مدى التوسع الذي حصل في الموسيقى المرافقه لقراءة المقام للاستاذ محمد القبانجي والانسجام بين صوت العود والقانون مع بقية الآلات .



المسيقيون المرافقون للقبانجي:
...................................
من الموسيقين الذي رافقوا الاستاذ محمد القبنجي في المؤتمر الاول للموسيقى العربيه في القاهرة سنة 1932 هم {يوسف بتو على آلة السنطور ، صالح شميل على آلة الجوزة ، ابراهيم صالح ضارب على الرق ، يهودا شماس ضارب على الطبله، يوسف زعرور الصغير على آلة القانون ، عزوري هارون على آلة العود}



أدخل آلات جديدة على الجالغي البغدادي:
.....................................................
وهكذا نجد ان الاستاذ محمد القبنجي أول من أدخل التجديدات على المقامات واسلوب الاداء ، وادخال الآلات الموسيقية الحديثة في اداء المقام، بعد ان كان قراء المقام يعتمدون في الاداء على التخت التقليدي المسمى بالجالغي ، فهو الرائد لفكرة الدمج بين الالات الموسيقية الحديثه وآلات الجالغي البغدادي ، فأصبحت كل نتاجاته الغنائية فيما بعد تعتمد على هذه الصيغة الالية الجديدة، وتبعه في ذلك كل قراء المقام العراقي الذين جاءوا من بعده منذ نهاية الاربعينيات من القرن الماضي حتى يومنا هذا.
كان البروتوكول المعتمد في المؤتمر هو أعطاء الحريه الكامله لجميع الفرق المشاركة بغناء كل الوانها الغنائيه مهما أستغرقت من الوقت خلال حفلات المؤتمر، حيث كان هدف المؤتمر تنظيم وحصر عدد المقامات العربيه ، وعلى هامش المؤتمر قدم المشاركون في هذا المؤتمر حفلاً فنياً ساهراً قدم خصيصاً للملك فؤاد الاول ملك مصر ومن على قاعة الاوبرا المصريه وقد خصص 10 دقائق لكل فرقه تقدم فيها وصله من غناء بلدها ، وعندما جاء دور العراق في تقديم وصلتهم أعجب الملك فؤاد بما قدمته الفرقه الموسيقيه العراقيه وبغناء القبنجي فأعطى الايعاز بالسماح للوفد العراقي بالاستمرار .. فقدم الاستاذ محمد القبنجي وقتها ساعة ونصف من الزمن وهو يتنقل من مقام الى مقام وحلق في سماء الإبداع مما أبهر جميع الحاضرين فخرج الناس عن سكونهم وصمتهم بالرغم بما تلقوه من أوامر بالصمت في حضرة الملك فانهالت الأكف بالتصفيق إعجابا وتقديرا ، وعلى أثر هذا الإعجاب استدعي القبانجي إلى القصر الملكي وقدم له مبلغا كبيرا من المال بأسم الملك ولكن ما عرف عن عفة القبنجي جعلته يمتنع عن قبول المال ، لكن الحاشية الملكية أفهموه أن هبة الملوك لا ترد ، فأضطر الى قبولها عندئذ معلقا:"أنا لست بحاجة إلى المال وأن الله عز وجل قد أغناني ولكني سأقبل هذه الهبة من أجل البركة لا غير."



غنى القبانجي أربعين مقاما في المؤتمر الأول للموسيقى العربيّة :
...........................................................................
غنى محمد القبانجي في المؤتمر الاول للموسيقى العربيه ما يقارب الاربعين مقاماً سجلت جميعها وحفظت في المكتبه الموسيقيه للمؤتمر أعتزازاً منهم بهذا اللون الفريد من نوعه .. ففي حديث متلفز للاستاذ محمد القبنجي يحاوره فيه الاستاذ يحيى الادريسي سجل في ثمانينات القرن المنصرم ، يقول فيه القابنجي : " كان هنالك 10 فرق مشاركة في المؤتمر ومن مختلف الاقطار العربيه ، وكانوا قد أكدوا ان كل فرقه موسيقيه غنائيه يجب ان تسجل 4 أعمال عن موسيقى بلدانهم وتمنح لأرشيف المؤتمر .. الا العراق فقد طلبوا منا 40 تسجيلاً .. وقد فعلنا ذلك وسجلنا لهم اربعين تسجيلاً للمقام العراقي "
وأستطرد قائلاً في نفس المقابله : " كنت أغني قصيدة (شمس الحميا) للشاعر الكبير محمد سعيد الحبوبي وكان هنالك احد الحاضرين من الجمهور قد جن وهاج طرباً بما أقول ، واصبح ينادي بأعلى الصوت ( زدنا يا قبنجي زدنا يا قبنجي ) وبعد ان انهيت وصلتي سألت من يكون هذا .. قالوا لي انه الدكتورمحجوب ثابت ، فذهبت وسلمت عليه فأثنى عليّ كثيراً
كان محجوب ثابت هذا صديق مقرب لامير الشعراء احمد شوقي .. وقد نقل له ما سمعه واطربه .. فطلب منه احمد شوقي ان يأتي بي اليه ، وفعلاً التقيت بالشاعر احمد شوقي وسألني ما الذي كنت تغنيه مما جعل محجوب ثابت يجن كل ذلك الجنون .. فتلوت عليه قصيده (شمس الحميا - للحبوبي) وقلت فيها :
شمس الحميا تجلت في يد الساقي فشع ضوء سناها بين آفاقي
سترتها بفمي كي لا تنم بنا فأججت شعلةً ما بين آماقي
مسودةُ الجعد لولا ضوء غرتها لما حَنَنتني اليها نار أشواقي
تهدي اليك بمرآها ومسمعها جمال يوسف في ألحان إسحاق
ضممتها فتثنت وهي قائلةٌ بالغنج رفقاً لقد فصلت أطواقي
وبُتُ أسقى وباتت وهي ساقيتي نحصي الكؤوس ونسقي الأرض بالباقي



شوقي يسأل القبانجي عن الحبوبي :
...............................................
سألني أحمد شوقي :" لمن هذه القصيده" قلت له:" للعالم الشهير محمد سعيد الحبوبي" ، فقال لي :"من الحبوبي " ، فتألمت وقلت له :" يا استاذ ، أصغر واحد في العراق يعرف شوقي وشوقي لا يعرف أكبر عالم في العراق" قال :" وهل لديه ديوان " قلت :" نعم له ديوان" ثم طلب مني ان اعيد قراءة القصيده ثانيهً فكررتها ، فأعادها بعد أن حفظها مباشرةً ولكنه غير فيها كلمه (ظممتها فتثنت وهي قائلةٌ.. قال أحمد شوقي وهي باكيةٌ) .. وعند عودتي الى بغداد سألت الرصافي عن هذا فقال :" باكية فيها موسيقى أكثر ولكن قائلةٌ احكم.



نقلاً عن مقال للاستاذ عبد الجبار العتابي ، يقول الفنان يوسف العاني :
...................................................................................
"كانت زيارات المرحوم القبانجي لبلدان كثيرة أكسبته حسن المعاشرة وأعطته موقعاً متميزاً في العلاقات الاجتماعية والفنية، فهو محترم أينما حل وهو بحق سفير بلا سفارة كما أعبر أنا دائماً عن فنانينا الكبار، فحين التقى بأم كلثوم في القاهرة وخرج مع أحمد رامي يتمشيان على كوبري النيل سأل الأستاذ القبانجي أحمد رامي : ام كلثوم هذه الفنانة الرائعة هل تحب؟ ، نظر أحمد رامي اليه نظرة شاعر لفنان وقال: كيف يبقى خالياً من له عين وقلب؟ ، صاح القبانجي : «الله.. أكمل يا أحمد»، رد عليه أحمد رامي : لا أكمل الا اذا أعطيتني وعداً ان تغنيها ، قال القبانجي: أغنيها ، وراح أحمد رامي يكتب ثم يقرأ للقبانجي هذه الأبيات ....
غلب الشوق غلب والهوى شيء عجب
لائمي في حبها أي قلب ما أحب
أي طير لم ينح من حنين وطرب
أي غصن لم يمل إذ نسيم الفجر هب
كيف يبقى خالياً من له عين وقلب
وعلى كوبري النيل غنى القبانجي هذه الأبيات وظل يعيدها ويتجلى بها حتى اجتمع الناس وراحوا يصفقون له ويطلبون الإعادة ، فكان حفلاً غنائياً بلا تذاكر ، الشعر لاحمد رامي والصوت واللحن للقبانجي والمستمعون ناس اجتمعوا بلا موعد ليطربوا ويستمتعوا بفن عال لا حدود له.



إقرار مقام اللامي :
..........................
وفي مؤتمر الموسيقي الثاني الذي عقد في بغداد عام 1964 حاضر القبانجي في موضوع المقام العراقي والموسيقى العربية لما كان يتمتع به من همه عالية وعلم وسعة اطلاع في الميدان الموسيقي ، وفي الحفل الساهر الذي أقامته الحكومة العراقية تكريما لضيوفها أعضاء المؤتمر غنى القبانجي مقاماته الجميلة بتفوق وتألق عال .
في هذا المؤتمر أقر مقام اللامي على انه مقام كامل من مقامات الموسيقى الشرقيه ، رغم أنه سبق وان غناه في مؤتمر الموسيقى الاول في القاهرة سنه 1932 ولكنه لم يقر كمقام.
إن الاستاذ محمد القبانجي من أساتذة الدور الرابع في المدرسة الموسيقية الحديثة في المقام العراقي. وعند الحديث عن المدارس الغنائيه في العراق وعن قراء المقام وتلك المدارس ، لا بد من الرجوع الى القرن التاسع عشر حيث تعددت المدارس الغنائية لقراءة المقام العراقي، فكان لكل مرحلة اساتذتها المتميزون في الطرق الفنية في الاداء .



مدارس أداء المقام العراقي :
...............................
في بداية القرن التاسع عشر كانت هنالك مجموعه مدارس والمقصود بها طريقة واسلوب غناء المقام العراقي ، ومن ابرز هذه المدارس كانت طريقة رحمة الله شلتاغ المولود عام 1793 الذي يعود اليه الفضل في ادخال الكثير من المحسنات النغمية في الغناء ، واليه تنسب طائفة من الاساليب والاصول المبتكرة في قراءة المقام، فقد ابتكر مقام التفليس التركي الذي استنبطه من مقام السيكاه الفارسي .
ومن ابرز الطرق التي اثرت في العديد من كبار قراء المقام العراقي كانت طريقة الحاج حميد النيار المولود عام 1813 ثم تلته طريقة حمد بن جاسم المولودعام 1817
في بداية القرن العشرين ظهرت مدارس عديدة، كان من ابرزها تلك التي اثرت في مسيرة المقام العراقي وهي طريقة خليل رباز ثم طريقة احمد زيدان .
ثم ظهرت طريقة قدوري العيشة، المولود عام 1861 ، وتلته طريقة رشيد القندرجي المولود عام 1886 واخيرا ظهرت طريقة محمد القبانجي المولود عام 1901 والذي تبنى طريقة قدوري العيشه وقام بنقلها وتطويرها واشاعتها واصبح له اسلوبه المتميز.
لم نلاحظ بروز مدرسة اخرى بعد مدرسة محمد القبانجي ، وكان كل من جاء بعده اما مقلدا لاسلوبه او مقلدا لاحد الاساليب القديمة ، ويمكن حصر ما حققه القبانجي في مجالين اولهما
توسيع حجم التخت البغدادي والجالغي البغدادي وجعله فرقة موسيقية تحوي آلات متنوعة، وابرز ما اضافه هو العود والقانون والناي والجلو والكمان اما ثانيهما فهو نقل طقوس اداء المقام من المقاهي الى قاعات كبيرة يؤمها رواد محبي المقام والموسيقى وذلك منذ نهاية الاربعينيات، كما انه اسهم اسهاماً فعالاً في احياء حفلات المقام العراقي في الاذاعة العراقية منذ تاسيسها ، هذا بالاضافه الى الجانب الفني لممارسة القبانجي للمقام فقد كان له الدور الاول في ادخال بعض نغمات الحجاز والبيات في مقام الاورفه مع احتفاظه بالطابع البغدادي في الاداء والتزامه بقواعد اللفظ والتعبير فضلا عن مساهماته الفعالة في احياء الموالد النبوية الشريفة، هذا الى جانب مهارته الفائقة في التصرف والانتقال من مقام الى اخر بكل اقتدار.
خرجت مدرسته قراءاً متقدمين في قراءة المقام ، منهم يوسف عمر ، عبد الرحمن خضر ، ناظم الغزالي شاكر البنا ، حسن خيوكة ، شهاب الاعظمي وآخرون.



حصل القابنجي على العديد من الجوائز خلال رحلته الفنية :
.......................................................................
في عام 1932 نال المرتبه الاولى في المؤتمر الاول للموسيقى العربيه في القاهرة
وفي عام 1953 حصل على وسام الرافدين
وفي عام 1967 نال وسام الكومندور الفرنسي الذي حصل عليه تقديرا للجهود الفنية ولابتكاره نغما جديدا وهو مقام اللامي والذي أقر سنه 1964 في المؤتمر الثاني للموسيقى العربيه في بغداد
وفي عام 1976 حصل على الميدالية التكريمية لرواد الفن ، وفي نفس العام حصل على وسام المجلس الدولي للموسيقى وهو وسام رفيع لا يمنح الا لكبار الفنانين
وفي عام 1978 خصصت وزارة الثقافة والاعلام جائزة أطلقت عليها (جائزة القبانجي) لقراء المقام للشباب المتفوقين وهو اول مطرب عراقي يطلق اسمه على جائزة.
وفي عام 1980 نال وسام اليونسكو وعد اعظم فنان في أسيا



تحوّل العاطفة إلى سياسة :
..................................
يقول القبانجي:

ما ان حل عام 1929 حتى تحولت العاطفة الى سياسة عندما أنشدت (عبيد للأجانب هم ولكن على ابناء جلدتهم اسود) وكان المعنى والهدف واضحا وساقتني وزارة علي جودت الايوبي التي أعقبت انقلاب الفريق بكر صدقي الى المحكمة ."
ففي سنه 1929 ، ومع أستقدام الأجانب للعمل في وظائف عديدة في العراق ، وأثناء السيطرة والهيمنه البريطانية على العراق ، أنشد (عبيد للأجانب هم ولكن على أبناء جلدتهم اسود ) للشاعر الكبير معروف الرصافي ، أقتبسها وأضاف اليها كلمات من الشعر الشعبي الزهيري ، وقد أعاد صياغتها الاستاذ والشاعر عبد الكريم العلاف ، وهي في الأصل شعر للشاعر معروف الرصافي في قصيدته المشهورة (علمٌ ودستور أمةٌ .. كل عن المعنى الصحيح محرف ..) والتي يقول فيها : (كلاب للأجانب هم ولكن على أبناء جلدتهم أسود) !! وعندما سمع الرصافي بتأليف عبد الكريم العلاف وإبدال كلمة كلاب للأجانب ..بعبيد للأجانب ..قال له : حسناً فعلت
هنا نقل الاستاذ محمد القبانجي بإدائه العالي المصحوب بالتوجع والمرارة أحاسيس ومشاعر الناس من وجود الأجنبي ومزاحمته لابناء الوطن:
حيث يقول الشاعر :
بلــد ٌ يزاحمني الغريب بوسطه
والأهلُ أهلي والبلاد بلادي
سعيد اللي گضه عمره بلا داي
وعايش دون خلَك الله يا دليلي
الغريب أصبح يزاحمني إبلادي
والأهل أهلي وبلادي إتعز عليّ
عبيد ٌ للأجانب هُم ولكن على
أبناء جِلدتهم أسود ياويلي
النوايب مرتهب منها ولكن
قومي لاذرى بحيهم ويلاه
عبيد ٌ للأجانب هُم ولكن على
أخوتهم أسود بكل قضيه ويلاه .
ثم يضيف :" وتكررت المسالة عندما نظمت قصيدة بعد فشل ثورة مايس عام 1941 وهروب رشيد عالي الكيلاني وجماعته الى خارج العراق قلت فيها (خليها صنطة ياخذها صفطة هوسة ياريمة كلها هونطة العندة صاحب يصبح لي نائب والعندة حبايب يلكة مراتب كل عمرة سامي يكظي مرامي الحامي حرامي لتحجي صنطة) واعتقد ان ما قلته كان الحقيقة بعينها .



غنى القبانجي أضنيتني بالهجر قبل فريد الأطرش:
............................................................
وفي نفس المقابله يضيف القبانجي :" سمعت في إذاعتنا مؤخرا من يشير ان قصيدة (( أضنيتني بالهجر ما أظلمك فارحم عسى الرحمن ان يرحمك للأخطل الصغير )) يقول المذيع فيها ان فريد الأطرش أول من غناها في حين انني قدمتها ببغداد قبل الأطرش بعشرين عاما .



الشعراء الذين غنى لهم القبانجي:
.........................................
غنى القبانجي لعدد كبير من الشعراء ، أمثال : عمر بن الفارض، محمد سعيد الحبوبي، كاظم الأزري، الشريف الرضي، عبود الكرخي، عبدالغفار الأخرس، حيدر الحلي، معروف عبدالغني الرصافي، جعفر الحلي وآخرين .



من اشهر اغانيه وعلى سبيل المثال لا الحصر
.......................................................
{سودنوني هالنصارى - اصلي واصلك بغدادي ـ صاحي لو سكران ـ الويل ويلي ـ مسلم ولا اذكرهلي ـ عيني جميل اشبدلك ـ نار بوجنتك لو نور ـ صلي وسلم بالحرم ـ بابا حسن ربيتك زغيرون ـ يا نجية كيفي – غنية يا غنيه - لا تظن عيني تنام}
واغنيات وطنية عديدة من اشهرها {المجرشة لعبود الكرخي ـ وحب وحكم ـ واكعد يا نايم للظهرـ وارض الابوة والجدود – أنا المغني – بلد يزاحمني الغريب بوسطه}
وقصائد لا تعد ولا تحصى {ما دار حسنة بشمر، يا يوسف الحسن، راحت ليالي الهنا ، خذ العيش وأغنم، كيف يقوى على الهوى، مالي أرى الهم، من يوم فركَاك، أرى آثارهم، طهّر فؤادك بالراطات تطهيرا} طلت ياليل ولم تبد صباحاً، يا صاح ربعي جفوني...الخ.. فقد غنى المرحوم القبانجي ما يزيد عن 51 مقام و 94 بستة كما ذكرها الاستاذ ثامر العامري في الصفحات ( 105-116 ) في كتابه المقام العراقي
كان (رحمه الله) واحدا من أكابر الشخصيات العراقيه لم يتخذ الغناء وسيله لكسب المال ، فقد كان يعيل الكثير من الفنانين وعوائلهم من ماله الخاص الذي يكسبه من التجارة .



كتب عبد الجبار العتابي يقول :
..................................
نشرت مجلة افاق عربية بعد شهر من رحيل القبانجي الى ان رحيل شيخ المقام العراقي يدعونا الى مراجعة متأنية ودراسة مستفيضة للأبعاد التي تبين دوره الخاص في غناء المقام ، وحماسه اللاهب في نشر هذا النوع من الغناء ونقله من النخبة الى الجماهير ، فالقبانجي مطرب من طراز رفيع ومبدع ومجدد وشاعر ذي بديهة رائعة ، بارع في الإلقاء الغنائي وفي التقطيع النغمي، وهو صانع مقامات، وأنها تشكل بحد ذاتها إرثاً بليغاً في الفن والثقافة ، ويكفي القبانجي تفرده بالمقام الأول في الغناء في زمن حفل بظهور فطاحل الغناء والمقام أمثال: رشيد القندرجي ونجم الشيخلي ومحمود الخياط وأحمد الكفر وأحمد الموصلي وحسن خيوكه وعبد القادر حسون وأحمد موسى ويوسف عمر وعبد الرحمن خضر وعباس كمبير وجميل الاعظمي وجميل البغدادي ويوسف حريش ، ويكفيه عزاً وشرفاً أنه كان المطرب الذي صان المقام من محنة الارتزاق والتكسب في زمانه، فقد كان الاستاذ القبانجي محسناً وجليل المنزلة، عاصر كبار شعراء العراق والأمة واغتنى من شاعريتهم وإبداعهم وغنى أشعارهم وشاركهم في همومهم الوطنية، وظل صوته يصدح للوطن ووحدة العرب ولفلسطين ، وفي عام 1983 تحدى محنة العمر وحمل سني حياته التي آربت على الثمانين، وحضر الى مبنى الإذاعة والتلفزيون ليغني للعراق فكانت آخر إسهاماته الوطنية وآخر نشاط سجله خارج جدران بيته ، بعدها استقر في بيته ولم يغادره إلا ظهيرة يوم الجمعة ليصلي في الجامع الذي أنشأه في منطقة الحارثية ثم يعود الى بيته ليستقبل الأصدقاء ويقرأ دواوين الشعر ويسمع أو يشاهد برامج المقام العراقي .



قال عنه الشيخ جلال الحنفي :
.....................................
عندما غنى القبانجي مقام (الرست) وحاكى به الأسلوب المصري ظن ان المحاكاة نوع من المهارة والبراعة وبالغ قليلاً في التغنج والتحرك أثناء الغناء، وهو أول من غنى المقام واقفاً خاصة أثناء تساجيله الاسطوانية، لكنه لم يعاود ذلك بعدها، وأنا لا أعترض على من يغني الأغاني المصرية، المطربون أحرار لكنني أخشى ان نفقد النكهة البغدادية العراقية الأصيلة" ، ويضيف الحنفي : " تفوق القبانجي بصوته الجميل وذكائه في اختيار النصوص الشعرية، أما الآخرون فقد وقفوا على نصوص معاده وظلوا محدودي الحفظ ، فضلاً عن ذلك شكله الوسيم وأناقة هندامه وحسن أخلاقه ومركزه الاجتماعي والمالي المرموقين، هذه الأمور قربته الى الناس فأحبوه" .. ويؤكد : "الموهبة والأذن الموسيقيه هما اللذان مكنا القبانجي من التلحين والإضافات النوعية في أداء المقامات، ويقيناً ان اجتماع مواهب النظم والتلحين والأداء في شخصية هذا الفنان العظيم هي التي وضعته في قمة الطرب الأصيل فهو مدرسه قائمة بحد ذاتها انجبت عشرات القراء سيبقى أثرها بعيداً في عالم الفن..
وذكر الحنفي : ان قصيدة عبود الكرخي في مدح القبانجي هي أحسن تعريف بهذا المطرب المشهور ومطلعها ...
انظر رسم بلبلنا العراقي الشاب ........ هو محمد القبانجي الذكي الألباب .



وقال عنه الناقد الموسيقي الراحل سعاد الهرمزي :
...........................................................
للفنان محمد القبانجي قدرة غنائية عراقية في غاية الرفعة برزت بوضوح في المؤتمر الأول للموسيقى العربية الذي عقد في القاهرة عام 1932، وكان فن القبانجي مثار أعجاب المستشرقين والباحثين الأجانب والفنانين العرب في مصر والأقطار العربية ، وأهم خواص القبانجي انه كان صاحب صوت رجولي بالمقاييس العلمية والذوقية، فضلاً عن أداء متمكن مصبوب في صوته صباً محكماً، ومن خواص ذلك الصوت الدفء الذي يحيطه وطواعية الحنجرة التي تتلاءم تلاؤماً مدهشاً مع طبيعة المقامات العراقية التي كان يؤديها بحرارة والتزام وهو صوت يكتسب قراراً وجواباً فريدين ولا يشعر المستمع وهو يصغي اليه في أي صوت عال أو منخفض ، متكلفاً أو مصطنعاً او أنه يبذل جهداً ليبدو أداءه طبيعياً ومنسجماً ومستريحاً ولم أسمع يوماً ان القبانجي لجأ الى الاستعارات الصوتية فان أداءه الطبيعي كان كفيلاً بالتأثير والإقناع من دون التوسل بتلك الاستعارات، وهو صاحب نفس طويل وصوت لا يتعب بالرغم من التعقيدات والصعوبات التي تشكل خاصية بعض المقامات العراقية كمقام الإبراهيمي الذي لم يؤدى بمثل ما أداه هو من براعة واقتدار ، ومن مميزات القبانجي انه موفق في اختيار الشعر الذي يغنيه ويعرف تأثيره على المستمع قبل ان يغنيه .



وقال عنه حسين الاعظمي :
...................................
كان المرحوم القبانجي مطرباً نادرَ المثال في جوانبه التاريخية والفنية، فهو اِسمٌ لامعٌ في عالم الغـناء العراقي والعربي في العـصر الحديث ، إن غناء الأُستاذ القبانجي لم يكن نتاجَ مُغنٍّ عاش في عصر من العصور الغنائية الموسيقية فحسب، وإنما وثيقة فنية واضحة المعالم تُبَيِّن للسامع والمتتبع حال التطور الفني والنضوج والإبداع وكذلك تبلور طريقة الاداء في غناء المقام العراقي بعد أن إستلمها من أسلافه بأمانة الذين أعطوا للمقام العراقي مكانة مرموقة أمثال رحمة الله شلتاغ واحمد الزيدان ورشيد القندرجي وغيرهم . ويعتبر عصر القبانجي قمة في الإبداع الغنائي للمقام العراقي وأفضل فترة زمنية برز ونضج فيها المقام العراقي . إن هذا العصر في محتواه يمثل تظاهرة خاصة في كونه صورة ناضجة ومتبلورة لغناء كلاسيكي تمتد جذوره الى عدة قرون ماضية، عـَكَسَ فيها المسيرة التاريخية والفنية لمدينة بغداد .. وهو بعد ذلك النموذج الواضح للتلمذة الغنائية وتطورها في الغناء العراقي عموماً ، ولم يقـَدَّر لأي مطرب من مطربي المقام العراقي أن تتضارب حوله الآراء كما قـُدِّر للمرحوم القبانجي، فقد ظلـَّت أصابع الاتهام تشير إليه مثيرة الشكوك حول إبداعاته وابتكاراته وآرائه، كما أُشير اليه بالبنان من قبل آخرين وجدوا فيه مثالاً عصرياً صادقاً مقتدراً في غنائه ثابتاً في آرائه، ولم يقف هذا التناقض في الآراء عند حدود تاريخ المرحوم القبانجي وفكره ومعتقده، وإنما أمتد الى الجوانب الأدبية حيث كتب بعضاً من القصائد والزهيريات التي كان يغنيها، وغناها آخرون من بعده، فهناك من النقاد القدامى ومُؤرخي الأدب من أنكر إمكانياته الأدبية ومنهم من أثنى عليها، وهناك أيضاً الكثير من هؤلاء من نظر في غنائه نظرة فاحص ومدقق ليستشهد به ويبرز إبداعاته وإمكانياته، ولم يكن هذا التناقض في الرأي عند مرحلة بعينها، فما زالت الآراء المحدثة لمحبي المقام العراقي والمهتمين بشؤونه تتناول الأُستاذ القبانجي مختلفة حوله بين الإِعجاب الواسع والإِشارة الصريحة الى بعض الجوانب الإبداعية في غنائه ونعتها بالجمل الغنائية غير العراقية .. لتأثره بالغناء الشرقي في إشارة الى عدم الرضا عن هذا المنحى في إبداعه .



ماذا لو عاد القبانجي لأيام شبابه ؟
..........................................
سئل القبانجي : لو عدت الى شبابك ماذا كنت ستفعل وصولا الى حياة أفضل؟ قال: سأختار طريق القبانجي بما رأى وشهد وربح وخسر انما الأهم من كل ذلك ان يظل القبانجي شاهد العصر الذهبي في الغناء العراقي الأصيل .



وفاة القبانجي
....................
في مستشفى ابن البيطار مساء يوم الاحد الثاني من نيسان عام 1989 أنطفأت تلك الشمعه المتوقده بعد ان خدم المقام أكثر من نصف قرن عن عمر يناهز الثامنه والثمانين عاماً تاركاً خلفه تراثاً موسيقياً لا مثيل له وضعه بلا نقاش على عرش المقام العراقي سيدا دون منازع ، ودفن في جامعهِ ( جامع القبانجي) في منطقة الحارثيه – شارع دمشق - جانب الكرخ من بغداد والذي بناه من ماله الخاص . وبرغم ان الاجيال الشابة لا تعرفه جيدا الا ان المتخصصين والدارسين منهم يدركون عظمة موقعه واهميته، فهو ركيزة من ركائز البيت الثقافي ولون بارز من الوان الشخصية الوطنية العراقية .



رحم الله الفنان الكبير محمد القبانجي وأحسن مثواه
وإلى لقاء آخر
أستودعكم الله.
علاء الأديب
تونس / نابل
6-6-2019



المصادر :
................
× عبد الفتاح حلمي – أنغام من التراث العراقي – جمع النصوص والنوته الموسيقيه الفنان عبد الفتاح حلمي – الجزء الاول – اصدارات نقابة الفنانين العراقيين – المركز العام – بغداد 1984

× الشيخ جلال الحنفي – الفنانون البغداديون والمقام العراقي – بغداد 1964
× إبراهيم عوبديا – في دنيا المقامات والغناء الشعبي العراقي – 1999
. × الحاج هاشم الرجب – المقام العراقي من بغداد – 1983
× ثامر عبد الحسن العامري – شخصيات عراقيه – دائرة الشؤون الثقافيه – وزارة الثقافه والاعلام – بغداد 1987
× عبد الكريم العلاف – الموال البغدادي – بغداد 1964
× ويكبيديا الموسوعة الحرّة.
× مجلة المعرفة .
× الوتر السابع للفنون والتنمية المستدامة.
× صحيفة صوت العراق / الدكتور رضا العطار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق