بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 14 سبتمبر 2016

العدد 7 لسنة 2016 ذكرياتي مع الكبار - مع الجواهري شاعر العرب الأكبر -حلقة -2- سعدي عبد الكريم / كاتب وناقد


 العدد 7 لسنة 2016

ذكرياتي مع الكبار  - مع الجواهري شاعر العرب الأكبر -حلقة -2-

سعدي عبد الكريم / كاتب وناقد





في عام 1980 كنت أوضب حقائبي للسفر خلسة الى خارج العراق، بعد ان توفيّ والدي رحمه الله تعالى في مطلع العام، وكان صديقي الفنان الموسيقي (مايكل ماسيكيان) قد فرش ليّ عتبة الهجرة الى أسبانيا والتي سافر إليها قبلي بغرض الإقامة فيها، ومن ثم السفر الى بلاد المهجر في أمريكا أو استراليا أو إحدى الدول الأوربية أو الاسكندينافية.
وكان ليّ خال يعمل في الموصل حينها، ودعتُ الأهل وقصدت الموصل بغية السفر منها الى الخارج عبر الشمال، حللّت ضيفاً مُرحباً به عند خالي الذي يحبني كثيراً، ويتوسم بقلمي خيراً، وكان رحمه الله يغدق عليّ، ولا يبخل بالصرف، وقد جهز ليّ الحقائب والأمتعة وما احتاج إليه هو وزوجته رحمها الله، وذات يوم تناما إلى سمعي، بان شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، سيّحلُ ضيفاً على جامعة الموصل لتكريمه من قبل الجامعة، وإلقاء بعض قصائده في حفل تكريمه، رصدت الموعد بدقة، وتأنقت، ولمعت حذائي، ولبست افخر (قاط) كان قد ابتاعه ليّ خالي، رغم أني كنت امقت لبس البذلة و(الباينباغ) (ربطة العنق) حينها، توجهت بكامل أناقتي إلى حرم الجامعة، وكنت احمل هوية نقابة الفنانين العراقيين، أخرجتها للواقف أمام البوابة، فسمح لي بالدخول بعد أن مازحني قائلاً:-

- أنتَ من بغداد ؟!
أجبته بتحفظ مبالغ فيه:-
- نعم .. نعم من بغداد !
توجست خفية بعد عدة أسئلة منه، وهو يبتسم، وتوقعت بان نهايتي ستكون على يدّ حفلة الجواهري، وأعود من الموصل مخفوراً الى بغداد، لكن المحاورة أنتهت على خير، دلفت إلى الجامعة، وتجولت فيها بحثاً عن مكان الحفل، مررت بالأروقة، والصالات، وكانت ثمة أصوات شبه خافتة، تتعالى رويدا كلما اقتربت من إحدى الصالات، فتحت باب الصالة، فرمقت الجواهري الكبير جالساً وهو يضع رجل على رجل، وبجانبه يجلس الراحل الكبير علي جواد الطاهر، ومهدي المخزومي، ومحمد مجيد السعيد رئيس جامعة الموصل حينها على ما أتذكر، ومجموعة من الأدباء، وأساتذة الجامعة، وثلة من الطلبة يحيطون به، تقدمت بخطى ثابتة، وأنا أتأبط رواية المسخ لكافكا، ولا اعلم من أين جاءت الرواية واستقرت بين أبطيّ، يبدو باني من شغفي بالموعد مع الجواهري، حملتُ الرواية التي كنت اقرأها ليلاً الى الموعد دون تخطيط مسبق، اقتربت من الجواهري بثبات، وجلست قبالته بعد أن سحبت احد الكراسي الفارغة، وجلست عليه دون إذن من احد، ووسط استغراب الجميع، نظر الجواهري اليّ ملياً، ثم ابتسم، وأردف قائلاً:-
- مالذي تتأبطه ؟!
- ها .. رواية كافكا .. المسخ.
- هل أنت شيوعي ؟!

وقفت، وراحت فرائصي ترتعد من السؤال، وأنا على وشك السفر والهجرة، فأجبت بعد ان لملمت ما تبقى ليّ من شجاعة، وعزم، وثبات:-
- ها .. لا ... لا !
- طيب .. هل أنت بعثي ؟!
- لا .. لا .. لا !

نفث دخان سيجارته في فضاء المكان، بعد ان لاحظ الارتباك الواضح علي، ثم ارتسمت على محياه ابتسامة ودودة بلون صبح العراق، الى الآن اذكرها وهي تستقر في ذاكرتي ما حييّت، ثم قال مازحاً:-
- طيب .. أنت لا هذا .. ولا ذاك .. والذي اعرفه ان المشايخ لا يقرؤون لكافكا .. من (أي العمام) أنتْ ؟!
راح موجات الضحك تتعالى من حولنا، لم اشعر بالإحراج، فمضيت ساعياً الى مأربي، فسألته بسرعة البرق، وبصراحة متناهية، لم أتوخى الحذر منها البتة:-
- أنا اقرأ للمتنبي، والجواهري، ولكافكا، وتولستوي، وديستيوفسكي، وتيشخوف، وغالب طعمة فرمان، وفؤاد التكرلي، ونجيب محفوظ، وطه حسين، والسياب، ونازك، والبياتي، والحيدري، ودنقل، وعبد الصبور، وبريخت، وغوغول، وبرنادشو، وغوركي .. ورحت اعدد الكُتاب الذين قرأت لهم بسرعة فائقة وهو منصت ليّ، وكأني أريد ان اثبت للجميع بأنني قدر الموقف، ومثقف موسوعي، خيمت بعدها برهة من الصمت على المكان، لكنها مشوبة بحذر، وواصلت الحديث بسرعة كالواثق قائلاً:-
- وبلغت من العمر العشرين ونيف، وحضرتك شغلت الدنيا بشعرك، وأدبك الجّم، حتى استحققت لقب (شاعر العرب الأكبر) قل ليّ أيها الجواهري الكبير، الى أي حزب تنتمي أنتْ ؟!
نظر الجواهري إلى الدكتور علي جواد الطاهر، وأطلق ضحكة خافتة، راحت ملامحها تستقر في ذاكرتي إلى الآن، ثم أردف قائلاً:-
- هل كَتبتَ الشعر ؟!
- نعم .. أنها محاولات يا سيدي
- اقرأ ليّ ...!
-
استللتُ من جيبي قصاصة ورق مكتوب فيها بيتين من الشعر، وسلمتها له، مع انحناءة تبجيل، لشعوري بأنني تجاوزت حدود الأدب، تسلمَ الورقة من يدي، وراح يقرأ فيها، ثم ارتسمت على ملامحه العراقية الوضاءة ابتسامة شفيفة ثم أردف:-

- أتعلم يا فتى .. أنت شاعر .. وجرأتك هذه أما أن تلبسك (بجامة) السجن (المقلمة) وإما إن تكون قلماً مهماً في المستقبل، ثم تابع قائلاً:-
- أما بخصوص تحزبي، وحزبي الذي انتمي إليه يا أيها الفتى الشاعر المشاكس، فان العراق، هو حزبيّ الأوحد، وليكن العراق حزبك أنتْ .. وبالمناسبة أناقتك هذه ستسبب لك مشاكل كثيرة مع (الحسناوات).
ملأ فضاء المكان، ضحكات استحسان من الجميع، وقد وقفوا، مع وقوف الجواهري الكبير، نظرت إلى الحاضرين والابتسامة قد علّت وجوههم، وشعرت بفخر ما بعده فخر، الجواهري الكبير يقول عني ذلك، لا اصدق، سلم ليّ قصاصة الورق مبتسماً كعادته، ثم قال:-
- إلا تحضر القاعة لسماع قصائدي
أردفت على الفور:-

- ليّ الشرف، بل وكل الشرف ان اسمع قصائدك من فِيك يا سيدي، وما حضرت الى هنا، إلا لأشنف مسامعي بتلك الموسيقى التي تنبعث من قصائدك التي ملأت كل الدنيا.
هرعت وراء المكتظين من حوله صوب قاعة الاحتفاء والترحيب به، بدء شاعر العرب الأكبر بإلقاء قصائده بعد كلمات الترحيب به، اذكر انه قرأ بعض القصائد حتى وصل الى قصيدة (يا ابن الفراتين) وحينما وصل الى هذا البيت:-
يا ابن الفراتين قد أصغى لكَ البلدُ
زعماً بأنــكَ فيهِ الصادحُ ألغردُ

قام الدكتور علي جواد الطاهر ووقف منتصباً مقاطعاً الجواهري الكبير، ثم قال بتواضع جم، وبثقة عالية:-
- أتسمح ليّ بقراءة البيت مولانا.
فأجابه الجواهري الكبير :-
- تفضل يا دكتورنا.
فألقى الدكتور الطاهر البيت بطريقته المحببة قائلاً:-
يا ابن الفراتين قد أصغى لكَ البلدُ
علمـــاً بأنــكَ فيــهِ الصادحُ الغردُ

فردد جميع من في القاعة، وكان صوتي، وكأني اسمعه الآن، من أعلى الأصوات التي آزرت الدكتور الطاهر فيما ذهب إليه، ورددنا بصوت واحد عالٍ:-
علماً بأنك فيه الصادحُ ألغردُ
بعد انتهاء الحفل، خرجت من المكان وأنا مغتبط، ومن مثلي، وأنا التقي بالجواهري الكبير وأحدثه وجها لوجه، بل واسمع منه قصائده وهو يلقيها، ومن مثلي، وفي جعبتي شهادة كبيرة، من شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري.
بعد فترة وجيزة، سافرت الى الخارج، ومرت الأعوام زاحفة على أعمارنا كالإخطبوط لتلاشي ذلك النسق الجميل الذي كنا نحمله في ملامحنا، وفي عقولنا، وفي قلوبنا حتى تآكلته خرائب الحروب، ونزق الطغاة، وجهل الساسة.
ولم التقي بالجواهري الكبير ثانية، حتى أبان منتصف التسعينات حين وافته المنية في دمشق، ودفن فيها، رحمه الله تعالى.
والعبرة التي خرجت بها، من خلال هذا الموقف المهيب، إني تعلمت من الجواهري الكبير حكمة لا تقدر بماس الأرض كله، ومفادها .. ان العراق هو أثمن ما نملك، وليكن العراق هو الحزب الأوحد الذي نتحزب فيه، وله، وما أعظمك أيها الفحل شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، أيها العراقي النجيب، الذي حمل العراق بقلبه، وعقله، في حياته، وفي منافيه، وفي مماته.
ملاحظة / البيتين من الشعر العمودي التي قدمتها عبر قصاصة الورق للجواهري الكبير، مكتوب فيها من أوائل ما نظمت من الشعر:-
وما بالناعيات يختبر المرء
ولكن بقول الحق يكرم الفم
وما القبر إلا مضجع سلس
وعند الحساب ينطــق الدم

سعدي عبد الكريم / ناقد وشاعر وسينارست/ العراق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق