بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 11 نوفمبر 2018

مجلة المرفأ الأخير ...العدد السابع لسنة 2018 ... أدباء منسيون من بلادي / الجزء الثاني ... 16 ... الشاعر بلند الحيدري



مجلة المرفأ الأخير ...العدد السابع لسنة 2018


أدباء منسيون من بلادي / الجزء الثاني
 
16

الشاعر بلند الحيدري






التقديم :
.............
من الغريب حقا أن يعترف له السيّاب والبيّاتي بالرّيادة ولا ينصفه النقاد والمؤرخون.
هذا ما أثار حفيظتي للبحث بين كلّ ماقيل وكتب عنه عّني أضع يدي على جرح شاعر عصامي عاش حياته مظلوما ومات مظلوما .
بلند الحيدري وللأسف الشديد حالت قوميته الكرديّة بينه وبين ماكان يستحق من مكانة .
بلند الذي يقول عن نفسه ويثبت بالبرهان البائن بأنّه رائد حركة التجديد التي نسبت الى السياب ونازك .
وهذا ما قاله بالفعل عنه السياب وعبد الوهاب البياتي وإن تكن صيغة القول مختلفة بعض الشئ إلاّ إنّ المعنى واحد.
بلند الذي ذهب بنصوصه الى الحداثة في صورته الشعريّة أكثر من اهتمامه بتحديث قالب القصيدة وإن كان قد ذهب اليها هي الأخرى.
شاعر أسطوري تخلّى عن حياة الرفاهيّة التي كانت تعيشها عائلته ورفض حياة البرجوازية . ترك دراسته وهو في الثانوية وتعلم وثقف نفسه بنفسه.
خرق كلّ الدساتير والنظم الإجتماعية ليثبت ذاته وليقول للجميع بأنّ الإنسان طاقة كامنة يمكن أن تتفجر ذاتيا ويمكن أن تكون شيئا مهما لو انّها توجهت توجيها صحيحا.
رحم الله بلند الحيدري..واسكنه فسيح جنانه.
علاء الأديب.






الولادة والنشأة
....................

ولد الشاعر بلند أكرم الحيدري في بغداد في 26 أيلول سبتمبر 1926 شاعر عراقي، كردي الأصل واسمه يعني شامخ في اللغة الكردية. والدته فاطمة بنت إبراهيم أفندي الحيدري الذي كان يشغل منصب شيخ الإسلام في إستانبول.
كان والد بلند ضابطا في الجيش العراقي، وهو من عائلة كبيرة أغلبها كان يقطن في شمال العراق ما بين أربيل وسلسلة جبال السليمانية، ومن هذه العائلة برز أيضا جمال الحيدري الزعيم الشيوعي المعروف والذي قتل في انقلاب الثامن من شباط فبراير عام 1963 مع أخيه مهيب الحيدري. وهناك إلى جانب بلند الأخ الأكبر صفاء الحيدري وهو شاعر بدأ كتابة الشعر بالطبع قبل بلند وله دواوين شعرية عديدة مطبوعة في العراق، وصفاء هذا كان يتصف بنزعة وجودية متمردة، ذهبت به للقيام بنصب خيمة سوداء في بساتين بعقوبة لغرض السكنى فيها، وهناك في بعقوبة تعرّف على الشاعر الوجودي المشرد حسين مردان الذي بدوره عرّفه على بلند.
تنقل في بداية حياته بين المدن الكردية السليمانية وأربيل وكركوك بحكم عمل والده كضابط في الجيش. في العام 1940 انفصل الوالدان. ولما توفيت والدته التي كان متعلقا بها كثيرا في العام 1942 انتقلت العائلة إلى بيت جدتهم والدة أبيه. لم ينسجم بلند في محيطه الجديد وقوانينها الصارمة فحاول الانتحار وترك دراسته قبل أن يكمل المتوسطة في ثانوية التفيض، وخرج من البيت مبتدءاً تشرده في سن المراهقة المبكر وهو في السادسة عشرة من عمره.

بلند والمأساة :
.................
توفي والده في عام 1945 ولم يُسمح له ان يسير في جنازته.
نام بلند تحت جسور بغداد لعدة ليال، وقام بأعمال مختلفة منها كتابة العرائض (العرضجي) أمام وزارة العدل حيث كان خاله داوود الحيدري وزيرا للعدل وذلك تحدي للعائلة.
بالرغم من تشرده كان بلند حريصا على تثقيف نفسه فكان يذهب إلى المكتبة العامة لسنين ليبقى فيها حتى ساعات متأخرة من الليل إذ كوّن صداقة مع حارس المكتبة الذي كان يسمح له بالبقاء بعد إقفال المكتبة.
الثقافة الإنتقائيّة
....................

كانت ثقافته انتقائية، فدرس الأدب العربي والنقد والتراث وعلم النفس وكان معجب بفرو يد وقرأ الفلسفة وتبنى الوجودية لمرحلة من حياته ثم الماركسية والديمقراطية، علاوة على قراءته للأدب العربي من خلال الترجمات.


دراسته:
.............
ولم يتم دراسته الثانوية، ولكنه ثقّف نفسه بنفسه، وقد عمل معاوناً للمدير العام لإدارة المعارض ببغداد، وأستاذاً للغة العربية بلبنان، ورئيساً لتحرير مجلة العلوم اللبنانية، ومديراً لتحرير مجلة آفاق عربية، ثم ترك العراق إلى لندن، وشغل منصب المدير العام لشركة باميكاب التي أصدر عنها مجلة فنون عربية حتى عام 1982

مؤلفات بالند :
...................
أصدر ديوانه الأول خفقة الطين عام 1946، أغاني المدينة الميتة 1952، قصائد أخرى 1957، جئتم مع الفجر 1961، خطوات في الغربة 1965، رحلة الحروف الصفر 1968، أغاني الحارس المتعب 1977، حوار عبر الأبعاد الثلاثة 1972، المجموعة الكاملة 1975، إلى بيروت مع تحياتي 1985، وأخيراً أبواب إلى البيت الضيق عام 1990م.
إضافة إلى الدواوين لبلند الحيدري هناك مجموعة مؤلفات (زمن لكل الأزمنة) “دراسات في الفن التشكيلي” نقاط الضوء، مداخل إلى الشعر العراقي الحديث، وقد حصل على جائزة إتحاد الكتاب اللبنانيين عام 1973، كما تُرجم له ديوانان إلى الإنجليزية، وترجمت العديد من قصائده إلى عدة لغات عالمية.



بلند والسيّاب وعبد الوهاب :
................................
في توصيف واقعة ذات مغزى خاص ضمن سيرته، يسجّل الشاعر العراقي بلند الحيدري (1926ـ1996) أنه ولد في عام ولادة بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، وأنّ الثلاثة كانوا على موعد، بعد عشرين عاماً، مع رحلة تطوير الشعر العراقي في مطالع أربعينيات القرن العشرين؛ ثمّ الإسهام، تالياً، في حركة الحداثة الشعرية العربية إجمالاً. وهو يحدد المداخل التالية:
ـ الخروج على شكلية القصيدة القديمة باعتماد التفعيلة أساساً، الأمر الذي عنى تجاوز نظام الشطرين في القصيدة العمودية.
ـ البحث في القصيدة عن وحدة عضوية، «يكون لها أن تنمو من أطرافها المتعددة، موسيقاها وصورها ومحتواها العضوي، وبما يؤكد مقامها على ثلاثة محاور ـ أول ووسط ونهاية».
ـ اعتماد «الكلمة المأنوسة والمألوفة، لإيجاد البعد الإيحائي للمفردة»؛ والمثال على ذلك، ترجيح الفارق بين كلمتَيْ «سكين» أو «مدية»، كأن يتمّ اختيار الأولى لما تحمل من «ترجيع ذهني وتداعيات من خلال ألفتنا اليومية للكلمة»؛ مقابل الأخرى التي قد تكون فصيحة وحبيسة المعاجم.
ـ تأكيد الاختزال في القصيدة، أو ما سيطلق عليه جبرا إبراهيم جبرا صفة «الأسلوب البرقي»، أي استخدام أكبر إيحاء في المضمون من خلال أقل ما يمكن من الكلمات.
ـ وأخيراً، محاولة تسخير الثقافة الفنية والتشكيلية في الشعر، على نحو «استخدام الفراغات والألوان بمرماها الانطباعي».
ومن الإنصاف القول إنّ هذه المداخل تجسدت، بالفعل، في مجموعات الحيدري الثلاث الأولى: «خفقة الطين»، 1946؛ و»أغاني المدينة الميتة»، 1951؛ و»خطوات في الغربة»، 1965. إلى هذا كانت تجربة الحيدري قد اكتسبت خصوصية مختلفة عن مثال السياب، في أنه مزج على نحو تركيبي بين الميول والمؤثرات التالية:
ـ النصوص الأدبية والتاريخية الكردية، التي اتصفت على الدوام بجمعها بين الشجن الوجداني العميق، والغنائية الرثائية، والحسّ الملحمي بالمصير، والرومانتيكية، والاندماج بعناصر الطبيعة، فضلاً عن الحساسية الفائقة إزاء المفهوم الكارثي والتراجيدي إجمالاً.
ـ التأمل البوهيمي في العلاقة بين الواقع والكتابة، وبين ضيق الوجود الفردي واتساع حركة المخيلة، واقتران ذلك التأمل بذهني تشكيلي تكوّن على خلفية صحراوية بدوية وأخرى جبلية كردية.
ـ التأثر المبكر بأشعار إيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة والياس أبو شبكة، لجهة موضوعات الخلود والفناء، والتأمل الرواقي في الوجود والعدم، والفصاحة الأخاذة المطعمة بمعجم فلسفي ووجداني حارّ.
ولعلّ كثرة «النجوم» في حركة الحداثة الشعرية العراقية، أمثال السياب والبياتي ونازك الملائكة، جعل الحيدري أقلّ شهرة في العالم العربي؛ وإنْ ظلّ دوره الريادي أساسياً وخاصاً.
مفارقات مأساوية في حياة بلند الحيدري
................................................
لقد عانى بلند الحيدري من المفارقة القائمة بين المكانة الاجتماعية والسياسية الرفيعة لعائلته الكبرى المقيمة بين السليمانية وأربيل، وبين معاناته الصعبة الناجمة عن انفصال أبويه وهو لا يزال يافعاً في الرابعة عشرة من عمره. وقد أحدث رحيل أمه المبكر، ومن ثم رحيل أبيه بعدها بقليل، جرحاً عميقاً في نفسه كما في مضامين شعره وتجربته التي اتسمت بالمرارة والحزن الميتافيزيقي والتبرم من الحياة. ورغم أن ظروفه الحياتية القاسية قد أجبرته على ترك الدراسة قبل إنهاء المرحلة المتوسطة، فإن بلند لم يستسلم لأقداره تلك بل قرر أن يعوض عن ذلك النقص بتعميق قراءاته وإثراء ثقافته واطلاعه بكل ما يضع مشروعه الشعري على طريق التطور والتجدد. نزوعه الوجودي وشعوره العميق بالغربة والاستلاب كانا نتيجة طبيعية لوحدة نفسه وانثلام روحه ونزوعه الدرامي والمأساوي. ومع ذلك يحق لنا أن نسأل عما إذا كان لحرمان الشاعر الشاب من الدراسة والدخول إلى «جنة» دار المعلمين العليا، التي دخلها أقرانه مثل نازك والسياب والبياتي ولميعة عباس عمارة، دورٌ ما في الغبن اللاحق به وفي إبعاده عن دائرة الضوء. ويحق لنا أن نتساءل من جهة ثانية عما إذا كان بلند قد دفع غالياً ثمن تواضعه وتواريه وعدم اكتراثه بالنجومية، كما بتسويق صورته والترويج لها في وسائل الإعلام.

بلند الحيدري يقول بأنّه رائد التجديد والسيّاب يدعم القول.
...............................................................
لقد ذهب الكثير من النقاد اعتبار الأسبقية الزمنية في كسر نظام الشطرين المعيار الأهم لتحديد مفهوم الريادة الشعرية، بحيث انحصرت تلك الأسبقية بين قصيدتي «الكوليرا» لنازك الملائكة و«هل كان حباً» للسياب. وهم بذلك غلّبوا الشكل على المضمون ولم ينفذوا إلى جوهر المسألة المتعلق بالرؤيا وتحديث المفاهيم واستمرارية المشروع الشعري. ولعل المعيار الزمني ذاك هو الذي فتح الباب على مصراعيه أمام الكثير من المزاعم المتناقضة، بحيث ظلت تلك الأسبقية معلقة بين أسماء عدة، من مثل علي أحمد باكثير ومحمود حسن إسماعيل وفؤاد الخشن وآخرين غيرهم. كما أن بلند نفسه ما لبث أن دخل على خط السجال، معتبراً في حوار له مع هاشم شفيق بأنه «المبشر الأول» بحركة التجديد من خلال باكورته الشعرية «خفقة الطين»، ومشيراً إلى أقوال للسياب داعمة لما ذهب إليه. والواقع أننا لا نعثر في تلك المجموعة على كسر واضح للنسق الإيقاعي الخليلي، لكن ما سنعثر عليه هو ترشيق الأوزان والإفادة من جوازاتها الكثيرة وتنويع القوافي، بما يذكّرنا بالشعرين الأندلسي والمهجري. كما لن يخفى على القارئ تأثر بلند في مجموعته تلك بإلياس أبو شبكة وبخاصة في ديوانه «أفاعي الفردوس»، سواء من حيث التضاد الكلي بين جمال المرأة الآسر وبين نزوعها الشهواني المدمر، أو من حيث القاموس الشعري والإحالات الدلالية المتصلة بشقاء الإنسان وبؤس مآلاته، فنقرأ في القصيدة التي تحمل المجموعة اسمها «صوَر الإثم بعينيكِ تلوّت كأفاعٍ تتلوّى في سعيرِ أطلقيها تتغذى من دمي وأقيميها سدوماً في سريري لم تزل في حمأة الجسم بقايا سكراتٍ مثل ديدان القبورِ.

خطوات في الغربة و رحلة الحروف الصفر :
........................................................
في مجموعتيه الشعريتين «خطوات في الغربة» و«رحلة الحروف الصفر» الصادرتين في ستينات القرن الفائت، يبدو بلند الحيدري أكثر تمكّناً من أدواته الفنية وأكثر اقتراباً من هواجس الحداثة وقضايا الإنسان المعاصر. وهو في هذه المرحلة يتأرجح بين رومانسيته السابقة وبين التعبيرية المتصلة بشروخ النفس وتصدعات الواقع المحيط به. وقد عكست قصائد تلك المرحلة مدى النضج الذي أصابه الشاعر بفعل انكبابه على القراءة واكتساب المعارف الفلسفية والفكرية والأدبية المتنوعة، كما بدا واضحاً تأثره بعلم النفس الفرويدي وبالفلسفة الوجودية عبر سارتر وكولن ولسن وغيرهما. وكغيره من الرواد يرى في الشعر طريقة لتغيير العالم والتصدي للقضايا الكبرى كالاستلاب والقهر وتجويف المعنى الإنساني وغربة الكائن بشقيها الجسدي والروحي. وهو ما نجد تمثلاته في قول الشاعر: «هذا أنا ملقى هناك حقيبتان وخطى تجوس على رصيفٍ لا يعود إلى مكان من ألف ميناءٍ أتيتْ ولألف ميناءٍ أُصار وبناظري ألف انتظار». على أن بلند سيعمد في مجموعته الأخرى اللاحقة إلى التعبير عن مفهوم التمزق الداخلي بواسطة اللغة نفسها حيث تتشظى المفردات وتسقط بعض حروفها، كما بواسطة تقطيع الإيقاع الوزني وتسريعه وفقاً لمقتضيات الحالة أو المعنى. ففي قصيدة «وحشة» يستفيد الشاعر من التقنيات المعاصرة ليعبر عن الحوار المقطوع بين الإنسان والإنسان أو بينه وبين ذاته «ويرنّ الصوت يرنّ يرن من أنت ؟ أنا أنت لقد أخطأت وأخطأت وأخطأت لا أنت أنا وأنا لا أعرف من نحن... هل نحن اثنان أم جيلٌ أم جيلان يتمدد بينهما الزمنُ لا أدرك ما تعني لكني سأظلّ أنازع في السماعة.».

حبّ الموسيقى وبحور الشعر وتفعيلاتها
...............................................

أن إلمامه بالموسيقى الذي اكتسبه من علاقاته الوثيقة مع موسيقيين رواد من وزن منير بشير وسلمان شكر، انعكس بوضوح في اختياره للبحور والإيقاعات الرشيقة والخفيفة على الأذن، فيما أن اهتمامه بالمسرح أكسبه قدرة ملحوظة على كتابة القصيدة المركبة ذات الأصوات المتعددة، وعلى توظيف الحوار في خدمة التنامي الدرامي للنص. كما يبدو القلق والتوتر سمتين بارزتين من سمات ديوانه «أغاني الحارس المتعب». وليس الحارس المعني بالعنوان سوى الشاعر نفسه الذي يحاول من ألف عام أن يرد التلف والاهتراء عن روح الأمة وتاريخها المجهض. وفي قصيدة «أقراص النوم» يؤالف الشاعر بين البعد المأسوي للمعنى وبين التوريات والطرف اللماحة، فيما يكاد الشعر لشدة واقعيته ووضوحه يلبس لبوس النثر العادي «ماذا في صحف اليوم ؟- نيكسون يخطب في المجلس- تصريحٌ للبابا بولس- بنكٌ يُفلس- رقصٌ في ساحات الإعدام- والدنيا في صحف اليوم - تتحدث عن خير وسلام- طفلٌ يقرأْ... ناولْني قرصاً- كهل يقرأ... ناولني قرصا...- بنتٌ تقرأ... قرصاً قرصاً». أما مجموعة بلند «حوار عبر الأبعاد الثلاثة» فتشكل من حيث بنيتها الأسلوبية وخلفيتها الفلسفية ذروة تجربة الشاعر، وتعكس هشاشة الإنسان وهو يواجه دون ظهير مصيره الفاجع. وإذ يستهل بلند مجموعته بقول دوستويفسكي: «حذار فإن قتل الأب هو أكبر جريمة في التاريخ» فهو يوائم خلال نص مسرحي طويل بين مقولة فرويد حول قتل الأب وبين عبثية كافكا في روايته «القضية»، حيث الإنسان في هذا العصر يحاكم ويعاقَب بالإعدام دون أن يعرف طبيعة الجريمة التي ارتكبها. وهو لا يملك بالتالي سوى أن يهتف بمرارة «العدل أساس الملك ماذا؟ صه لا تحكِ- كذِبٌ... كذبٌ... كذبُ -الملْك أساس العدلِ- إن تملك سكّينا تملكْ حقك في قتلي.

بلند بين التقريرية والمباشرة حينا وفرادة اللغة والأسلوب:

.................................................................

قد تقودنا القراءة الموضوعية والمتأنية لتجربة بلند الحيدري إلى الوقوف على بعض ما يشوب هذه التجربة من هنة هنا أو خلل هناك، كأن نلاحظ وقوعه في التقريرية أو المباشرة حيناً، أو نلاحظ التفاوت الواضح بين قوة الفكرة وضعف التعبير عنها حيناً آخر، أو غياب التدوير والوقوع في فخ التقفيات المتقاربة التي تشبه السجع حيناً ثالثاً. وقد يرى البعض أن بلند لم يبذل بعد «حوار عبر الأبعاد الثلاثة» ما يكفي من الجهد لإيصال تجربته إلى مناطق وكشوف جديدة، لكن كل ذلك لا يقلل أبدا من قيمة الشاعر وفرادة لغته وأسلوبه ومقاربته للعالم، ولا يبرر بأي حال ما ألحقه به النقاد من غبن وإجحاف.

ماقال البياتي والسياب في شعر بلند:
..............................................

يقول عبد  الوهاب البياتي: ان بلند الحيدري مبدع في اساليبه الجديدة التي حققها و في  طريقته التي لا يقف فيها معه إلا شعراء قلائل من العراق.و يقول بدر شاكر  السياب في بلند الحيدري « هناك عدة شعراء اكن لهم كل تقدير و اعجاب و على  رأسهم بلند الحيدري الذي كان ديوانه « خفقة الطين » اول ديوان صدر من ثلاثة  دواوين كانت فاتحة عهد جديد في الشعر العراقي هي « عاشقة الليل » لنازك و « ازهار ذابلة للسياب ».

ماقاله جبرا ابراهيم جبرا:
..............................

من مميزات شعر بلند الحيدري - كما قال جبرا ابراهيم جبرا - انه كالفنان الحاذق لا يلقي بالالوان على لوحته جزافاً و لا يرسل الخطوط انى اتجهت، انه يورد تفاصيله مرتبطة متماسكة فتنمو القصيدة بين يديه نمواً من الداخل ككل الاعضاء الحية و اذا بها في النهاية وحدة كاملة لها اول ووسط و نهاية ». ان بلند الحيدري يقف في الصف الاول مع رواد الشعر العربي في موكب التجديد الذي بدأ المسيرة بعد الحرب العالمية الثانية في النصف الثاني من القرن العشرين و بلند الحيدري شاعر يمثل نمطاً لكثير من الشعراء المعاصرين فالكثير منهم يتخذونه اماماً و يدينون له بفضل له عليهم في دروب الشعر و هو بهذا يمثل رأس المدرسة لها اتباع و انصار يعترفون له بالفضل الكثير. فإذا ما دخلنا من ابواب الشعر الخاص ببلند الحيدري و غصناً نتأمل في معانيه ادهشتنا الصور و المعاني التي يقوم بابداعها و اذا أمعنا النظر في شعر الحيدري وجدنا انه بحق شاعر اغفاءة ونوم و حلم في الفراش على السرير في الليل و هو كذلك شاعر الذكرى و الامس و الماضي و الايام و الدهر و الزمن و الاعوام فكل اشعار الحيدري منذ بدأ الشعر حتى آخر قصيدة كتبها تدور في الجوهر و في الاساس حول كلمتين هما « الماضي و الليل » هذا من جهة و من جهة اخرى نرى ان كل اشعاره قد دارت حول الزمن يقول بلند الحيدري: سكر الليل باللظى المخمور و اقشعرت معالم الديجور فالشاعر نظم هذا البيت من الليل و الديجور و هو « الظلمة » ثم يعود الى الليل عندما ينتقل الى الحديث عن عدة الليل و يحتاج الانسان في الليل و سرير كان يجثو في قلبها المخدور و رأى الليل شمعة تتلاشى فنلاحظ اهمية الليل في شعره فالسرير هو من عدة النوم في الليل و الشمعة لا تستخدم إلا في تبديد الظلمة في الليل اذاً فالليل قضية مهمة لعله يمثل ما كان يعيشه من جانب مظلم في حياته حتى اخذ ذلك الجانب الكبير من شعره يقول بلند الحيدري: « في دموع تمرغت بالنور اطلقت ضوءها الكئيب فأغفى فوق ظلين هو ما في السرير و النور هنا نور النهار الذي يأتي بعد ظلمة الليل و الاغفاءة و السرير من عدة الليل في النوم و الظل ايضاً يكون مظلماً ليس كالشمس التي تبعث الضوء حتى انه عندما اطلق كلمة الكئيب على الضوء ربما لان الحالة النفسية السيئة للشاعر و رغبته في التعبير عنها بالظلمة و الليل حتى انه عندما جاء بلفظة النور وصفه بالكئيب لان النور الكئيب الشاحب يشبه في صورته الظلام.فالليل يمثل عنده جانباً من حياته البائسة و ربما في شعره الخاضع للمقابلات و اليأس يشبه الى حد كبير رائد المدرسة الشعرية الحديثة الاول بدر شاكر السياب الذي اكثر من ذكر المطر وجيكور في قصائده ونلاحظ ان تكرار الكلمات في شعر بلند يشبه الى حد كبير تكرار الكلمات في شعر بدر شاكر السياب لكن الحيدري اغرق في التشاؤم فجعل من الليل و ادواته الاداة التي يرسم بها كلمات شعره فلا نجد شطراً شعرياً إلا و فيه حديث عن الليل او عن شيء يرمز باطناً الى ظلمة الليل التي هي انعكاس للظلام الداخلي الذي يعيش فيه يقول: فشمعتي شاعرة طالما غنت لي النور بأجوائيه تصارع الليل فما ينتهي كأنما الظلماء اياميه يا شمعتي ماتت عهود الهوى دفنتها في ليل اوهاميه اذاً نلاحظ انه يصارع الليل الطويل و ربما استعار هذه العبارة من شعر امرئ القيس الذي عانى طويل الليل عندما قال « فيالك من ليل كأن نجومه بكل مغار الفتل شدت بيذبل » فالليل طويل على الانسان الذي يعاني الحب او الوحدة او المرض و ربما ان الشمعة اصبحت الصديق الملاصق لبلند لان الليل عنده دامس يحتاج منه الى ما ينيره و لكن هذه الشمعة سرعان ما تنتهي فيعود الى ظلامه و احزانه. و هكذا تنتهي قصيدة « نشيج » بموت عهود الهوى مدفونة في ليل الاوهام كل شيء عنده يوحي الى ظلام داخلي و حياة سوداوية جعلته من غير وعي ينسج اشعاره في صورة تشائمية سوداء. يقول بلند الحيدري: كفى التألم واهجعي تعب الزمان فلن يعي عبثاً ترومين الصباح وصبح سعدك قد نعي إذاً الصباح عنده غائب جداً يحب ألا ينتظره الانسان لأنه قد مات فالزمن يشكل في قصائده المحور الذي تدور فيه أفكاره فالشعر عنده جملة متناقضات فما أن يأتي بالليل-المسيطر عليه حتى يأتي بلفظة النهار والذي مات وصار بلا فائدة وما أن يأتي بالذكريات حتى يأتي بالنسيان فهو يعتمد على المقابلة في الشعر كثيراً يقول: كنت بالأمس إن بكيت.. كم وقعنا على شواطئ حلم فرأيت الحياة أطياف حب حالمات سماؤها عينان.. ويقول: مستخدماً المقابلة بين الموت والحياة لأنها من المقابلات الدائمة في الكون فالكون قائم عنده كماعند الجميع على التناقضات: قد خبرت الحياة في كل دور فعرفت الهدوء في الموت يحيا ويستحضر بلند الحيدري من عدته المعهودة المساء،الليل الأحلام ويشكل منها مايلي لمقطوعته «النهر الأسود»زنبقة سوداء في شعرها الذابل قد نام احتضار المساء نهر تمشي الليل في لجه لايوجد زنبقة لونها أسود ولكن الشاعر أصبح بلا ارادة يصبغ مفرداته بلون إحساسه الداخلي المظلم فهو لايرى متسعاً من النور فكل كلمة تدل على شدة التشاؤم الذي يشعر به بدءاً من اسم المقطوعة «النهر الأسود»حتى الزنبقة سوداء وثغرها ذابل مصيره إلى الموت والمساء يحتضر إذاً فالشاعر هنا شاعر ليل وشاعر مقابلات يقابل دائماً الحياة بالموت والحاضر بالماضي والفوز بالظلمة يقول الليل جاث والظلام مكشرعن نابه والرعد يرعد كلما هتف السناء ببابه فكان خلف الليل قلباً مل طول غيابه سئم الدجى والوحشة الرعناء ملء اهابه نلاحظ الليل لايفارق الشاعر وليس الليل فقط فالظلام جاء به من خلال الاستعارة المكنية حيث شبه الظلام بالوحش الذي يكشر عن أنيابه ليأكل كل من يقف بوجهه فالليل أصبح يؤرق الشاعر ولم يعد هناك مفر منه فهو أصبح في قبضته ولعل صوت الرعد المخيف أيضاً يوضح لنا بشاعة الصورة التي تعبر عن حالة مزرية وصل اليها ليل مظلم جاثم عليه مكشر عن أنيابه مع صوت الرعد المخيف الذي أخذ يهتف في بابه ويأبى الرحيل يقول بلند الحيدري: يمشي الشتاء بغرفتي متعثراً بظلامها قلقاًيمرغ ضوءه المخنوق فوق رغامها والليل داج والعواصف نائحات ثم يقول: «والساعة الحمقاء تمطر في الدجى ساعاتها فعلام لم ترجع ألم تسمع صدى دقاتها ولعلهانسيت حديث الأمس في همساتها.



المنافسة الأخوين بين بلند وصفاء
..........................................
كانت بين الأخوين بلند وصفاء منافسة واضحة، فعندما كان صفاء على سبيل المثال ملاكما كان بلند ملاكما أيضا، وعندما برز اسم صفاء الحيدري في ساحة الشعر العراقي ظهر اسم بلند ليتجاوزه وينال حظوة وشهرة في العراق والعالم العربي. وكان صفاء يكتب رسائل لبلند ويخبره بأنه غطى عليه وانه حطمه .

بيروت في أشعار بلند الحيدري
.......................................
وقد اختص بيروت التي عشقها بـ 14 قصيدة ضمنها ديوان صغير (إلى بيروت مع تحياتي) 1989 وفي إحدى هذه القصائد يخاطب زميل دربه خليل حاوي بعد أن فجع بحادثة انتحاره
قف كالنخلة فارعة أو قف كالطود الشامخ  واجمع في فوهة سوداء لبركان صارخ صوتك واعلن موتك
وأخيراً صدر لبلند ديوان (دروب في المنفى) قبل أيامٍ من رحيله إلى مثواه الأخير.


الريادة في الشعر الحديث جاءته من المتعاركين عليها
..............................................................
إن الشهادة له بالريادة في الشعر الحديث قد جاءته من المتعاركين أنفسهم، فانتصر لنفسه في معركة الريادة في الشعر الحديث دون أن يخوض تلك المعارك!!   فها هو بدر شاكر السياب يسجل اعترافه لبلند الحيدري عام 1956 حينما كتب بلند الحيدري، هذا الشاعر الممتاز الذي أعتبر العديد من قصائده الرائعة أكثر واقعية من مئات القصائد التي يريد منا المفهوم السطحي للواقعية أن نعتبرها واقعية
وقبل تاريخ كلمة السياب بأربع سنوات، كانت هناك شهادة عبد الوهاب البياتي الذي يندر أن يصدر شهادة لأحد إلا إذا كان قد استحوذ على إعجابه وفرض عليه نفسه.. كتب البياتي عام 1952
إن بلند شاعر مبدع في أساليبه الجديدة التي حققها.. وفي طريقته التي لا يقف فيها معه الا شعراء قلائل من العراق.

ترجمة أشعاره
.................
 وقد توسعت دائرة الاهتمام بمعطيات الشاعر بلند الحيدري لتجتاز الحدود العربية بعد أن قام ديزموند ستيوارت بترجمة أشعاره إلى الإنجليزية . أن شعر بلند يعبر عن الشعور بالخيبة الذي يكتنف العصر الحديث، وهذا التعبير هو أصدق من قصائد الحماسة المتعمدة التي ينظمها الشعراء السياسيون، حيث يهاجمون جميع الناس لجميع الأسباب".. وديزموند ستيوارت – الذي ترجم أشعار بلند الحيدري 1950 – قد أظهر إعجاباً منقطع النظير بشعره دون سواه من أقرانه. ثم توالت الترجمات المختلفة للغات المختلفة لشعر بلند الحيدري، الذي كرمته فرنسا قبيل رحيله في محفل أدبي كبير لا يكرم فيه عادة إلا الكبار في عطاءاتهم الأدبية في العالم. .. نستنتج مما سبق أن الشاعر الإنسان بلند الحيدري لم يكن لديه من الفراغ ما يملأ به تلك السجالات التي تدور في فلك (لمن الأولويات في ريادة الشعر الحديث)، فقد كانت الأولوية عند بلند للقصيدة وللبحث.. وللحضور الأدبي والفكري والثقافي.

خصائص بلند الشعريّة:
..............................
هناك شبه إجماع من النقاد العرب بأن نازك والسياب والبياتي لم يدركوا الرومانسية في الشعر العربي إلا في أيامها الأخيرة.. ولم يكن تبنيهم لها في مجاميعهم الشعرية الأولى لمرحلة حضارية عاصروها، كما كانت جماعة (أبوللو).. لأن هذه المرحلة في حياة المجتمع العربي بدأت بالانحسار على إثر انفتاح هذا المجتمع – بعد الحرب العالمية الثانية – على ملامح واقع جديد، وتيارات فكرية وفنية جديدة، وانما كان تبنيهم لها تمثيلاً لمرحلة ذاتية كان يمر بها هؤلاء الشعراء الشباب. .. ومما يؤكد ذلك أن ديوان بلند الحيدري الأول (خفقة الطين) كان ينطوي على بوادر كثيرة للإبداع الفني مما ينفي عنه صفة الشاعر المبتدئ. أما عن التأثيرات التي صقلت موهبة بلند الحيدري فإنه يعترف بها في محاضرة ألقاها في صنعاء ودونها الدكتور عبد العزيز المقالح في كتابه (الشعر: بين الرؤيا والتشكيل) حيث تحدث بلند الحيدري عن فترة تكوينه ونشأته الفكرية وتأثره بالمدارس الثقافية السائدة في عصره حيث قال: " في تلك الفترة نشأنا بالقرب من تجربة الجواهري، والياس أبي شبكة، وعمر أبو ريشة، ومحمود حسن إسماعيل، وعلي محمود طه.. وكذلك تجربة شعراء المهجر، ولا سيما إيليا أبو ماضي ونسيم عريضة.


تأثر بلند الحيدري بعمر أبو ريشة:
............................................

أشار النقاد إلى تأثر بلند الحيدري أيضاً بأسلوب (عمر أبو ريشة) ويرون أن الحيدري حاول تقليد أبو ريشة في بعض موضوعاته عندما كتب قصيدة (موت شاعر) واعتبروها الأخت الصغرى لقصيدة عمر أبو ريشة (مصرع فنان)... ووجد النقاد كذلك نفس القصيدة (موت شاعر) تلمح فيها ظلال من قصيدة (المساء) لإيليا أبو ماضي، ويستشهدون بقول بلند الحيدري
كفى التألم واهجعي
سلمى زمانك لا يعي عبثاً
 ترومين الصباح.. وصبح سعدك قد نعي 

بلند النموذج الأمثل بعد العقّاد للمثقف العصامي
......................................................

بلند الحيدري يجسد الأنموذج الأمثل – بعد عباس محمود العقاد – للمثقف العصامي الذي أدار ظهره لصروح الأكاديميات، وأخذ ينهل بشغف من الثقافات الإنسانية المتنوعة، مما هيأة لأن يكون حجة ومرجعاً لكل ما يمت إلى تلك المعارف الانسانية في مضمار الآداب والفنون بصلة
وعندما عمل في مؤسسة الزراعة العراقية، وساهم في انشاء مجلة الزراعة، كان يشاركه في تحريرها صديقه الشاعر حسين مردان، وجد أن تلك الوظيفة وتلك المجلة، لا تحققان ما تطمح إليه نفسه فتركها لينضم إلى مجموعة من الثائرين على المألوف، أطلقوا على أنفسهم مجموعة (الوقت الضائع) حيث ضمت هذه المجموعة عدداً من الفنانين التشكيليين من أبرزهم جواد سليم ونزار سليم وبلند الحيدري وكانت هذه المجموعة تحظى بتشجيع وتأييد دعاة التجديد في الفنون ومن بينهم جبرا ابراهيم جبرا
وبعد قيام ثورة الرابع عشر من تموز، كان بلند الحيدري من أبرز الأعضاء المؤسسين والنشطين في اتحاد الأدباء في العراق، حيث استمر في عطائه، إلى أن زُج به في السجن بسبب التقلبات السياسية التي اتخذت من العراق مسرحاً لها بعد قيام الثورة أو الانقلاب العسكري فيها.

بلند بين السجن والترحال
...........................

وأطلق سراح بلند الحيدري من السجن بصعوبة بالغة ليرحل إلى بيروت وليتولى سكرتارية التحرير في مجلة علمية متخصصة، ظن القائمون عليها أن الحيدري متخصص في دراسة العلوم ويمارس هوايته في كتابة الشعر
 عاد إلى العراق بدعوة رسمية ليشارك في مهرجان الاحتفال بذكرى (أبو تمام) الذي أقيم في مدينة الموصل.. ولما رجع إلى بيروت وجد أن الحرب الأهلية قد استعرت.. فشد الرحال إلى بغداد ليعمل في وزارة الاعلام كمسئول في مجلة آفاق عربية
 لكن بلند الحيدري لم يكن يحتمل ما يحدث من انتهاكات وتجاوزات  بحق شعب العراق، فجاء إلى لندن ليستقر فيها منذ ذلك التاريخ حيث انطلق من العاصمة البريطانية بذلك الزخم الكبير من الانجازات الثقافية والسياسية التي كان يقوم بها عبر نشاطاته المستمرة دون هوادة.



أخر ماكتبه بلند عن نفسه قبل دخوله المشفى
......................................................
ما كتبه بلند الحيدري عن بلند الحيدري قبيل دخوله المستشفى بساعات: " كان المنفى قائماً في داخلي منذ أن وعيت نفسي كائناً شعرياُ وكائناً سياسياً في آن واحد.. والغربة بهذا المعنى، كانت في داخلي، غربتي عن عائلتي البرجوازية المتشبثة بالحكم البائد، مما دفعني – يومذاك – بالهرب من داري في قصر العائلة لأتشرد في شوارع بغداد، وأنام على أرصفتها بصحبة الشاعر حسين مردان.. ولكي أجسد ثورتي الحقيقية على عائلتي البرجوازية، فقد فقد وضعت كرسياً ومنضدة متهرئة لأغدو كاتباً للعرائض – (عرضحالجي) – أمام بوابة وزارة العدلية التي كان خالي داوود باشا الحيدري يشغل منصب الوزير فيها.. وهذا التمرد على العائلة كان صدى لتمردي على الشكل العشائري الموروث. ربما بدأ المنفى في حياتي يوم عشت غربة حقيقية في داري حيث توزع حب والديّ ما بين حب أمي لأخي الكبير وحب أبي لأخي الصغير وهذا ما أشعرني بالكثير من الاغتراب في حيز العائلة، وهو مادفع بي إلى الهرب من البيت. إذن فالمنفى كان في نفسي منذ البدء، وكبر هذا المنفى بمعان مختلفة عندما وقفت، وأقف سياسياً ضد النظام السائد في العراق.

عن تجربته في بيروت كتب بلند
........................................

عن تجربته الكبيرة أثناء اقامته في بيروت يكتب بلند الحيدري: في بيروت وقعت في البيت ذي الأبواب العديدة، كان لكل منا أن يجد نفسه في الباب التي يريد عبورها.. المسلم مسلم، والمسيحي مسيحي.. في بيروت أدركت أهمية أن أكون ديموقراطياً وأن أفهم الآخر، وأن أؤكد على كل الأبواب المفتوحة على بعضها بعضاً. طريقي إلى بيت يوسف الخال كان مفتوحاً، وطريقي إلى بيت حسين مروه كان مفتوحاً وطريقي إلى بيت أدونيس كان مفتوحاً، ومن خلال بيتنا خرجت (مواقف) يومذاك: وكل هذا الكلام على التوجهات المتناقضة التي تعودت أن أتعامل معها علمني أن أكون ديموقراطياً، وحسبي أن أذكر صداقتي لتوفيق صايغ رغم اختلافنا اختلافاً جوهرياً. في هذا البلد – بيروت – تعلمت أهمية احترام الرأي الآخر والدفاع عن الرأي الآخر عندما يكون الهجوم على هذا الرأي هو منال منك – أيضاً - في يوم آخر، في هذا البيت الكبير عقدت الصداقات مابين أدونيس والشيوعيين، وفي هذا البيت عقدت صداقات مابين القوميين وخليل حاوي.. وبين الآخرين المناوئين لتوجهاته.. إذن تشكل في بيروت المنحى الأهم في تجربتي الشعرية وتجربتي السياسية في الآن ذاته" بيروت.. يا موتاً اكبر من تابوت..  يا موتا لا يعرف كيف يموت.. لن يعرف كيف يموت.

تهاني فجر وكتابها الضلع الثالث:
.........................................

كتاب «ضلع المثلث... بلند الحيدري والريادة المفقودة»؛ للشاعرة والناقدة الكويتية تهاني فجر، صدرت عن دار «العين» للنشر في القاهرة. والكتاب يخوض بجرأة مسألة عدم ترسيخ حضور الشاعر العراقي الكردي بلند الحيدري في طليعة الجيل الريادي الذي أعلن ثورة الحداثة الأولى. في المقدمة، تقول تهاني فجر، أنها تتناول في هذا الكتاب سيرة الحيدري (1926 - 1996)؛ منذ ولادته إلى مرحلة صباه ومراهقته وتشرُّده، وصولاً إلى مرحلة سجنه وخروجه من بغداد وارتحاله إلى عواصم عدة، منها بيروت التي كانت من أهم محطات حياته، ثم لندن، وحتى وفاته في مستشفى بنيويورك.

يتناول الكتاب كذلك أعمال بلند الحيدري «التي استندت إلى رموز بعينها كالموت والغربة والزمن والفراغ الذي أولاه اهتماماً بالغاً»، مع إشارة مسهبة إلى الفكر الوجودي «الذي كتب على خلفيته مجمل تجربته الشعرية».

ويلاحظ أن الكاتبة خصَّت كل ديوان من دواوين بلند الحيدري بوقفة نقدية صغيرة، وهي تقول في المقدمة: «كنتُ محظوظة في التواصل مع زوجته الفنانة التشكيلية الراحلة دلال المفتي، إذ لا توجد أي معلومات عن الشاعر في الكتب ولا في الإنترنت، واستطعتُ الحصول منها على معلومات كثيرة ومهمة عن حياة زوجها الراحل، وقد أرسلَتها إلي قبل وفاتها بقليل، ثم اكتشفت تجهيل ريادته كأول رائد للشعر الحديث، في العراق، وقد تحدثت عن هذا بشيء من الإسهاب في فصل مكانته الشعرية». وورد في ذلك الفصل أن الحيدري أصدر أول دواوينه عام 1946 تحت عنوان «خفقة الطين»؛ ومن ثم تتساءل فجر: «كيف تجاهل النقاد ريادة الحيدري للشعر الحر ونسبوها إلى نازك الملائكة التي نشرت قصيدتها «كوليرا» في بيروت سنة 1947، أي بعد عام من صدور ديوان الحيدري في كتابها الأشهر «قضايا الشعر المعاصر»؛ حين أشارت إلى الثورة التي صاحبت ديوانها «شظايا ورماد»؛ المنشور في 1949؟ بل إنها أشارت إلى قصائد حرة الوزن ينظمها شعراء شباب آنذاك هم: عبدالوهاب البياتي عبر ديوانه «ملائكة وشياطين»، شاذل طاقة عبر ديوانه «المساء الأخير» صيف 1950، بدر شاكر السياب عبر ديوانه «أساطير أيلول» 1950، متجاهلة تماماً بلند الحيدري وديوانه «خفقة الطين» الذي صدر قبل قصيدتها الشهيرة». وتضيف: «في المقابل اعترف السياب بأسبقية الريادة للحيدري، حين قال: «هناك عدد من الشعراء أكن لهم كل التقدير والإعجاب؛ على رأسهم بلند الحيدري الذي كان ديوانه «خفقة الطين»؛ أول ديوان صدر من ثلاثة كانت فاتحة عهد جديد في الشعر العراقي: «عاشقة الليل» لنازك الملائكة و «أزهار ذابلة» للسياب».

وتلاحظ فجر كذلك أن نقاداً كثراً «سقطوا في خطأ فادح، إذ اعتبروا بلند من الجيل الذي تلى جيل الرواد ومنهم علي جعفر العلاق ومحمود فاخوري، وعزا البعض تجهيل دور بلند الريادي بسبب كرديته التي وقفت حاجزاً بمنع الاعتراف بأسبقيته، فيما رأى آخرون أن بلند كان أقل انغراساً في التراث من السياب والملائكة لذلك اختارت الثقافة ما يوافقها ليكون شارع التجديد باسمه.».



بلند شاعر القصائد القصار في زمن المطوّلات
........................................................

إنه شاعر القصائد القصار، في زمن المطوّلات مثل «الأسلحة والأطفال» و»المومس العمياء». لقد كانت القصيدة القصيرة المقتضبة هاجسه الجمالي وخياره الإبداعي وسبيله الخاص الذي نهجه وسار عليه، فعُرِف بها وعَرّف بمدنيّتها، في وقت كان الشعراء يكتبون عن القرى والحقول والمزارع والحنين اليها، وإلى مرابعها وبساتينها وطبيعتها الريفية، بينما كان بلند الحيدري يكتب عن «ساعي البريد» و«الحارس المتعب» وعن أقراص الأسبرين والفاليوم والمنزل البغدادي والمقهى البغدادي والشوارع الغاصّة بالراجلين. ولكنه أيضاً كان شاعر الغربة الوجودية بامتياز، الغربة في الحياة، وعبث العيش في ظلالها. لقد عكست المدينة عليه أيضاً ظلالها المأساوية، وأزماتها وغربتها وضياع البشر في أتونها، أمام ثنائية الموت والولادة.



جماعة الوقت الضائع:
........................

أفاد بلند الحيدري في مطلع حياته الأدبية من صحبته للنخب المثقفة التي كانت تعيش تلك الآونة الذهبية، فكان صديقاً حميماً للرسامين الكبار من أمثال جواد سليم ونزيهة سليم ولورنا سليم وفائق حسن وشاكر حسن آل سعيد وكاظم حيدر، والنحاتين مثل محمد غنمي حكمت وفتاح الترك وخالد الرحال، والمعماريين المشهورين مثل الجادرجي وقحطان المدفعي وعدنان رؤوف وغيرهم من الفنانين الذائعين، اولئك الذين أمدوا الحداثة بأساليبهم وأطوارهم وأشكالهم الفنية. ونتيجة مزاملته لهم ومعرفته بهم وبأسرار فنهم وطرائقهم الإبداعية، ساهمت تلك الصحبة في جعل بلند الحيدري ناقداً فنياً له صوته المعروف، وقلمه النافذ أسلوبه الحاذق في نقد «جماعة الفن الحديث» التي تأسست في تلك البرهة. هذا إضافة إلى مشاركته في تأسيس جماعة «الوقت الضائع» التي كانت تنادي بالعدم والعبث واللا جدوى وتصريف الوقت في الشارع والمقهى ودور السينما، والابتعاد عن الرغد والهناءة والطمأنينة وعادات القبول واللياقة التي كانت تسود الطبقة المخملية في المجتمع العراقي آنذاك. علماً أنّ بلند نفسه كان يتحدّر من هذه الشريحة المنعّمة، فخاله كان وزيراً، ووالده موظفاً كبيراً، وجدّه من أرومة كردية رغيدة ذات جذور أرستقراطية، لكنّ بلند ضرب عرض الحائط بكلّ تلك المباذل التي سادت عائلته وعائلة زوجته - السيدة دلال المفتي - التي تتحدّر من أصول شامية متمكنة. غير أنّ بلند لم يمل أو يستسغ تلك المواضعات البورجوازية التي عُرفتْ بها العوائل البغدادية إبّان الفترة الملكية التي شهدت تحولات الحداثة وطفراتها على كل الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
بلند وأصحابه يؤسسون لفن الشارع:
........................................
أسس بلند واصحابه لفن الحياة والشارع، وانغمسوا في حياة الليل واللهو والشراب، مستغلين جمال بغداد آنذاك وأمنها ووداعة الحياة فيها والبساطة الجارية في كل قنواتها اليومية، من رسم وشعر وقراءات في المقاهي وفي الساحات والشوارع (رسم سكيتشات للحياة البغدادية، تخطيطات للوجوه ولزبائن مقهى السويسرية ومقهى البرازيلية الكائنين في عقد النصارى التابع لشارع الرشيد). ترجمات وقراءات لكولن ولسن عبر ترجمات «اللا منتمي» و «ضياع في سوهو» ثم «الغريب» لألبير كامو التي قام بترجمتها أحد المنتمين لشلّة «الوقت الضائع» إياها، أو مستعينين بترجمات سهيل إدريس صاحب «الحي اللاتيني» وعبد الرحمن بدوي صاحب ترجمة الكتاب الشهير لسارتر «الوجود والعدم».

لذلك عثر في مطلع السبعينات على بعض تلك الكتب والدواوين التي رسمها جواد سليم لبلند الحيدري والسياب وحسين مردان صاحب «طراز خاص» مصحوبة ببورتريهات شخصية لهم تتوج الغلاف الأول أو الغلاف الأخير، فضلاً عن التخطيطات التي حفلتْ بها تلك الدواوين النادرة والرسومات التي أرّخت لفترة نادرة ومثالية، فترة كانت من أجمل الفترات التي أسست للحداثة في كل حقولها الجمالية، الشعرية والتشكيلية والمسرحية والروائية والقصصية، وحتى الموسيقية، أيام الموسيقار سلمان شكر والأخوين جميل بشير ومنير بشير وفريد الله ويردي ومن تحدروا من تاريخ الموسيقى التقنية التي دعا وأسس لها الموسيقار وأستاذ الموسيقى الشهير الشريف محي الدين حيدر، في تلك اللحظة الزمنية من تطور مشروع العراق الحديث في الفترة الملكية الآنفة.


السفر الأخير
...............

لقد مضى بلند من دون أن يعتني أحد بإرثه وأوراقه ومكاتباته ورسائله ووثائقه الفنية والأدبية، كانت لديه رسائل ومخاطبات مع جميع رجالات الفن والأدب والفكر العربي، اين هي الآن؟ سؤال يحضر لا سيما بعد غياب شريكة حياته الفنانة التشكيلية دلال المفتي، التي أصرّت على حفظ إرث بلند الحيدري، وكذلك اللوحات الثمينة التي كان يمتلكها أين هي الآن؟ هل هي مع ولدهم الوحيد عمر الذي يقيم في كندا؟ أم ضاعت هباء في هذه الأزمنة الرمادية، أزمنة الخوف والرعب والفوضى.

. 26-9-1996توفي في لندن بتاريخ
ودفن فيها.

من أشعاره:
...................

سمير أميس
.....................

سكر الليل

باللظى المخمور

واقشعرت معالم الديجور

وسرت نسمة

فهش ستار

و استخفته ضحكة التغرير

فتنزى من غرفة

وسرير كان يجثو في قلبها المخدور

ورأى الليل شمعة

تتلاشى

في دموع تمرغت بالنور

أطلقت ضوءها الكئيب فاغفى

فوق ظلين

هوّ ما في السرير

وتهاوى لمسمع الصمت همس

شنج النار

في الفراش الوثير

لملمت طفلة السكون الأمان

وتناهت في كهفها المسحور

وغفت ضجة النهار

فماذا …؟

حرك الحس في الدجى المخمور

اغرام … !

عهد الغرام توارى

وانطوى

مضجع الهوى المسعور

وتمشى في قصة الأمس سر

أيقظ الموت

في ذرى آشور

فخلا القصر

غير طيف فراغ

عصفت فيه لوعة التدمير

وخلا القصر

غير حسناء كانت

تعبد الصمت في الفراغ الكبير

عتقت شهوة الدماء

فجنت

دودة الطين في الدم المأسور

أين نينوس … ؟

زوجها المتشهى

أين لذات أمسه المأثور

كل عرق في جسمها

يتلوى

بضجيج اختناقها المحرور

قد غفى أمسها الجميل وولى

في المتاهات

كومة من عبير

فإذا البهو غيبة وذهول

فيه ما في فؤادها المستجير

كل شيء هنا

مجرد شيء

وجمود مغلل بعصور

كم رأى الليل أدمعا تتمطى

كجراح في وجهها

كم تهاوى

في مسمعيه نشيج

وانتفاضات قلبها المكسور

كم تمنت

ولو أنها بنت راع

تشجر الليل في لظى تنور

كم تمنت

لو أنها بعض حلم

لم يقيد بعالم شرير

لم يدنس بغمرة الطين يوما

لم يعتق صداه بين القصور

كم تمنت

لو أن تلك اللآلي

وهي في صدرها شهادة زور

زفرات

تبلورت في دنيا

سلها الحب من دما غرير

أو أماني عاشق مستهام

أو دموع

لشاعر مغرور

أي معنى لتاجها … أتغذي ؟

نهم الجسم من سماه المنير

أي معنى لعرشها المتعالي

وهو يشدو لعمره المنصور

ليس في تاجها

جنون حياة

ليس في عرشها بريق شعور

تتلوى على الفراش

عساها

تزرع الحس في الفراش الغدور

هكذا عفر الخريف

جفونا

لم تزل بعد مرتمى للنور

هكذا صاحب الظلام سناها

وهو ينسل للفناء المرير

*

سميرا ميس ذياك الذي ادريه عن قلبك

سميرا ميس من هذا الذي يغفو إلى جنبك ؟

*

ضجر الصمت ليلة

فتمطى

في غضون السكون همس الرداء

عبر البهو كالخيال

رقيقا

يتوقى مطارف الضوضاء

وعلى ضفة الظلام

تراءت

خفقتان من السنا الوضاء

عكس القلب فيهما

من دماه

بعض أطياف منية هوجاء

فوق نوريهما

التفات سنين وانتفاض لفكرة

حمراء

أي سر … ؟

في ناظريها يدوي

أي سر … ؟

في هذه الأصداء

هيه

مهلا

لقد تحرك باب

وشعاع في الكوة السوداء

وعلى مبسم السكون

تنزت بعض آثار ثورة خرساء

أطلقتها

من مذبح الجسم

أثام فتاهت مع الرؤى في الفضاء

تخلق الحس في الدجى

وتندي

ختلات الضلال بالأغواء

ايه اشور

ذاك تاجك جاث

يتفانى

على صديد اشتاء

تلك … راميس

دودة

تتشهى جيفة الأرض

ثورة الأنواء

شرقت بالسموم حتى تلاشت

صور الطهر في الرؤى الرعناء

أحرقت روحها

وذكرى ليال

كم تعطرن باختلاج الوفاء

فعلى خافق السرير

استبدت

عاصفات

بطينتي أهواه

طوقت ابنها

فسلت دماها

من صدى أمسها القريب … النائي

طوقته

فطوقت ذكريات

يتخبطن في جنون الدماء

ها .. هنا

ها .. هنا

ربيع فتي

وخريف مضمخ بشتاء

عصف الشر فيهما

فتوارت

خدعة الطهر العفاف المرائي

صاح :

نيناس .. تلك امك

فاسكر

برحيق الخطيئة العمياء

دنس الماضي المسيء

وحطم

تحت رجليك كعبة الأبناء

أنت … ما أنت

غير كومة طين

فيك

ما في التراب من أشياء

هيه

ماذا … ؟

أرى بعينيك روحي

وجنوني

و عاصفات ندائي وجحيما

يطل من كوة العين ويحبو

في الغرفة الصماء

هيه

ماذا … ؟

أراك تخشى رياحا

أنا أيقظت شرها

من دمائي

فيم تخشى الحياة في موكب النار

فترتد

عن دمى أهوائي

ايه … نيباس

تلك أمك

فارفق بنداء الأمومة الشوهاء

لبّ صوت الخنا

فلبى نداه

واستوى الفصل في ضمير الخفاء

ولولى الليل جيده

واستفاقت

في شفاه الحياة روح سناء

ثم أغفت

في كوة القصر كالحلم

وظلت كهمسة بيضاء

ورأت

قصة

فثار سؤال

في عروق السكينة الملساء

*

سميرا ميس من هذا الذي إلى جنبك

يريق الاثم في قلبك … ؟

*

هو ابني أيها الليل الذي يولد من رعبك





 صدى خريف
...........................

قلب توكا على عكازة الذكرى

وراح يبحث في أنقاض

ما مرا

عن صورة أهملت في قبو أيامي

يا قلب

دعك من الماضي

وأشلائه

كف السنين أبادت كل لالائه

ولن ترى

غير أشباحي وأوهامي

ظللت أرقصها بالكذب

أياما

حتى استحالت بمر الدهر

أنغاما

أروي بتضليلها قلب الصبا الظامي

إن كنت تبحث

عن حبي

وعن أملي

فالحب أغفى

وماتت همسة القبل

من بعد ما ملأت

صاب الأسى … جامي

أو كنت تسأل عن آمالي الغر

فتلك كومة وهم

أغرقت فجرى

يوما

ولم تبق إلا يأسك الدامي

كما نسيت الصبا

دعه لدنياه

فلن ترّجع لي شيئا

بذكراه

ألا تفجّر أحزاني

وآلامي

يكفيك ما في كؤوسي اليوم

من ألم

وصبوة تتلوى في يد العدم

حيرى

تقلص فيها نبع أحلامي

أراك تمعن في نسيان صورتها

ما صبوتي

غير أحلامي وشقوتها

تلك التي حملت أعباء أعوامي

اليوم تغفو وراء الغيب في كلل

كأنها سئمت

وعدا بلا أمل

يهفو على وتر دام وأنغام

ومثلها فلتنم ..

أيام دنياكا

فالشؤوم يرقص في دربي ومسراكا

(( وقد تمنيت

ألفا

دورة العام ))



العطر الضائع
..................

يا أنت

إني لن أعود

لن أتبع الزمن الحقود يمر بي

دون اعتذار

يا أنت

اني قد عبثت ولم أزل طربا بعاري

سيضيع عطرك في الفراغ

وما اغتوى

غير احتقاري

واذا بعينيك اللتين عبدت ملأهما

انتصاري

تستجديان هواجسا تومي لفكرك

باصطبار

فتطول وقفتك السخية _ويلها _

ويطول ثاري

ويظل يحملك الخيال ولن يقر على القرار

فإذا بدنياك الطليقة تستفيق

على أسار

ويكاد يربط كل شيء في وجودك

بانتظاري

*

يا أنت

اني لن أعود

لن أتبع الزمن الحقود

يا أنت

اني قد عبثت ولم ازال طربا بعاري

وغدا أمر عليك معتذرا فيخدعك

اعتذاري

المصادر:
................
×ويكبيديا الموسوعة الحرّة
× آفاق فضل النقيب
× صحيفة القدس الأخبارية
× صحيفة الشرق الأوسط العالمية
× ملاحق جريدة المدى.
× الكاردينيا
× موقع الناقد العراقي
×صحيفة الحياة الندنبّة
× مجلة ضفة ثالثة
× موقع ديوان العرب
× مجلة إيلاف


رحم الله شاعرنا بلند الحيدري
وأسكنه فسيح جنانه
وإلى أديب منسي آخر من بلادي
أستودعكم الله.

علاء الأديب
تونس
28-7-2018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق