بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 27 يناير 2015

العدد الثاني لسنة 2015 .... القصة القصيرة .... محطمة .... بقلم : وعد شكوة







 العدد الثاني لسنة 2015

القصة القصيرة 

محطمة

بقلم : وعد شكوة





محطّة
عتمةٌ شتويّةٌ تغطّي الكونَ ثلثي اليوم. يشدّ أزرَ عباءة الضّبابِ الكثيف. يساندُهما اِنقطاعُ التّيّارِ الكهربائيّ ليشكّلوا معاً مثلثَ علقمٍ يبتلعُ زفراتِ أصحابِ السّيّاراتِ المصطفّين رتلاً طويلاً بانتظارِ الحصولِ على الوقود.
وحدَهُ صبيُّ القهوةِ يتنقّلُ بخفّّةٍ: يطرقُ على زجاجِ نافذةِ المختبئ في سيّارتِهِ وابتسامةُ ودٍّ تزيّنُ وجهَهُ الأسمر: ألا تريدُ فنجانَ قهوةٍ؟ إنّهُ يُشعرُكَ بالدّفء.
ويندفعُ بنشاطٍ نحوَ مجموعةٍ تتهامس ُوهي تحلّلُ وضعَ البلادِ، تتهم وتبرّئُ من غيرِ أن تسمحَ للصغيرِ بسماعِ كلامها. يُبادرُهم بطلبِهِ المغري: هل تشربون القهوةَ؟
تصطادُ عيناهُ اللامعتان ذاك الواقفَ في البردِ يعاتب الدّنيا على قسوةِ أبنائها، ويبثُّ لوعتَهُ في لفافةِ تبغِهِ، فيسألُهُ باهتمامٍ: ألا تُزيلُ مرارةَ التّبغِ بفنجانِ قهوةٍ. دورُكَ بعيدٌ.
ويقفزُ بخفّةٍ إلى ركنهِ القصيّ في زاوية المحطّةِ حيثُ ركّزَ وعاءَ الفحمِ يستعينُ بهِ على تسخين القهوةِ المنتظرة في العبوات علّها تلذّ لزبائنِ الملل فيبيعُ و يشترون، ويعودُ بمشترياتِهِ الصّغيرة للمنتظرين في الصّقيع.
بلا إنذارٍ علا أزيزُ الرّصاصِ لا يعرفُ المُهاجِمُ مَنْ خصمُهُ، ولا يعرفُ المُدافِعُ عدوَّهُ. حلّتْ رجفةُ الخوفِ محلّ رعشةِ البردِ. علا صوتٌ ساخر: هجومٌ عابرٌ ولا خسائرَ بشريّة. وقهقه الخائفونَ عسى أن تعيدَ أصواتُهُم شيئاً من طمأنينةٍ اشتاقوا إليها. وطفقَ كلّ منهم يجرّ قدميهِ المتثاقلتين تحت وطأة خيبته فقد أعلن صاحب المحطّة عن نفاذ كمّية الوقود. سار الطفل بين المتدافعين والدّم يسيل من رأسِهِ. صاحَ أحدُهم: لنأخَذهُ إلى المشفى. تبسّم الطفل مغالباً ألمه: بسيطة يا عمّ! جرحي السابق نزفَ كثيراً، وأبي ظلّ ليومين تسيل دماؤه وأمي تمسحه بالأغطية قبل ان يأخذوه وسيعود كما تروي جدّتي.
- اقترب رجلٌ آخر : المشفى قريب يا ولد!
- لمْ أبعْ كلّ القهوةَ يا خال! أحضرت الدواءَ لأمّي لكنّ النقودَ المتبقيّة لا تكفي ثمن الخبز للجوعى في الغرفة.
تنهّد أصحابُ الجيوبِ الخاوية، و ارتاح ذوو الضّمائرِ الغائبة. وغادروا مسرعين.
خلت المحطّة وهجع الحارسُ المرهق بانتظار الصباح ليستفيق على صرخة شقّت الضباب، وفرّت هررٌ كانت تلعقُ الدّمَ المتجمّد على الأرض على وجه صبيّ يحتضنُ وعاءَ القهوةِ... العبوات... ويداهُ تمسكان بالفناجين، وعلى شفتيه تلوح ابتسامةُ الفرح. وأمّه الثّكلى ذاهلة أمام جسد كانت روحه راية أملهم.







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق