بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 31 مارس 2015

العدد الخامس لسنة 2015 .... دراسات وابحاث ..... اللغة القريبة في شعر جميلة عطوي .... د .أنور غني الموسوي






العدد الخامس لسنة 2015


دراسات وابحاث


اللغة القريبة في شعر جميلة عطوي


د. أنور غني الموسوي










لقد كانت الحداثة على قدر كبير من الشجاعة فأحدثت التغيير التأريخي ، و بقدر تلك الشجاعة كانت ايضا شجاعة ( ما بعد الحداثة ) و اصواتها ، اذ لم تمنعهم البناءات العالية و الاضواء البراقة للحداثة من النظر بتمعّن الى ازمات الحداثة التي اسقطت حصونها المنيعة ، في عملية مراجعة عميقة .فبينما كانت الحداثة تريد التغيير في مستوى الغايات انبهارا بالعقل و العلم ، جاءت ( ما بعد الحداثة ) للمطالبة بالتغيير الجذري في وضع تفرضه العولمة و تقنياتها و عواملها المرافقة لها .
من اهمّ ازمات الحداثة في مجال الادب هي العزلة ، فبعد ان كان الادب حياة للناس و فضاء رحبا صار متعاليا في قلاع و حصون عالية بعيدة عن الناس ، بظاهرة مريرة هي عزلة الادب ، في ادب النخبة او نخبة النخبة .
لقد طرحت لغة ما بعد الحداثة كثيرا من الرؤى لأجل تجاوز هذه الازمة ، و العودة بالادب الى وضعه القيادي و القريب من الناس ، مع عدم التفريط بالجماليات و التقنيات الفنية التي بلغها .و من اشكال تلك المعالجات هي اللغة القريبة ، و التي نجد طيفا واضحا من الكتاب صاروا يكتبون بها ، لغة تتسع للانسانية قريبة من مشاعر الانسان و قضاياه و بفنية عالية ، و من بين من يكتبون اللغة القريبة الشاعرة التونسية جميلة عطوي ، بلغة تتميز بتقنايات فنية عالية و جماليات باهرة ، و في ذات الوقت تقترب من الانسان و مشاعره و احاسيسه و وعيه الحاضر ، و تبلغ النموذجية في قصيدة ( كان يا مكان ) ، و هنا سنبحر في اجواء تلك اللغة المميزة مع ملامحها الفنية و الجمالية .
لقد كانت و ما زالت اللغة القريبة هي لغة الخلاص الصارخة ، و بطيف واسع من التعبيرية ، بل و مستويات مختلفة من حقول المعنى ، فيمكن تحقيق غايات اللغة القريبة بالتوصيلية و الايحائية القريبة ، و بالايحائية العالية ، بل و بالتجريدية. ان اهم ما يميزها ان تكون الفكرة جلية و ان تتجلى الغاية و القصد مهما كان مستوى الايحاء و شكل البوح ، و حينما يتحقق القرب الجماهيري الاستثنائي مع محافظة على تقنيات و عناصر فنية عالية و عميقة حينها تتحقق لغة ثرية واسعة بسعة الانسانية ، و بتحقيق مستويات عالية من التفنن و العمق الجمالي تتحقق لغة ساحرة عظيمة هي ميزة اللغة العالمية كما هو واضح .
اللغة القريبة لغة عالية فنيا و جماليا بتوظيفات واضحة و تجليات جمالية رفيعة ، محورها الرسالية ، على مستوى الجمال و القضية الانسانية و تطلعاتها ، و نجد ذلك حاضرا في قصيدة ( كان يا ما كان ) للشاعرة جميلة عطوي . فبعد التوظيف العالي و التعبيرية الظاهرة في عنوان القصيدة ( كان يا ما كان) و نقل القارئ الى عالم واضح و مشرق من الاستحضارات و النقاط المعنوية الحميمة و الاليفة ، تقول الشاعرة :
( قال الراوي
كان ياما كان ..
مدينة للعتمة
يحكمها الغربان ...
فيها تعثّر الفجر
بين الثنايا )
هنا تشخيص وتوثيق من قبل الراوي الوضع المأساوي للواقع ، بلغة رمزية و ايحائية قريبة ، كبيرة البوح ، و توظيف لمفردات ظاهرة في ايحاءاتها ( فالمدينة و العتمة و الغربان و الفجر ) تنقل القارئ الى تصورات قريبة تحاكي ما يعيش من وضع سياسي و اجتماعي ، حينما يكون التحكم لغربان بعيدين عن الحضارة و الحرية و الامل .ثم تشرع الشاعرة ببيان صوت مطالب بالخلاص و ينشد مستقبلا افضل
( وكاد يضيع منه الطريق
فاعتلى كثيب الحكايا
يستجلي الحقيقة
ينادي كل رفيق
وعلى شعاع الأمل
سبك حصون المرايا
ليلتقط النور ....
به يخفف العتمة
يجلي إحساس الضيق )
فتحضر كلمة (كاد ) لتبين ان الامل موجود ولم يحل الخراب العريض في الارض ، يرى شعاع الامل و يلتقط النور ، يخفف العتمة و يجلي احساس الضيق . لغة قريبة لا تعمد الى التأجل و لا التعقيد تبوح بايحاء عذب ، بمجازات شعرية واضحة و قريبة . ثم تقدم الشاعرة شرحا لوعورة طريق الخلاص و تعثر الفجر و خفوت النور و الامل :
( بدت له أطياف مكبلة
والضوء بين السبايا
يرمى في جحر عميق ...
و قد ألبسوه ثوب الرزايا
يميت فيه البريق .. )
الاطياف المكبلة ، و البريق يموت بما البسوه من رزايا ، في عرض اخر للواقع المرير و سلبها نعمة النور و اشعة الامل ، ثم تنظر الى الخلاص المنبثق وسط المأساة انه الشهادة فهي السبيل لأجل الحياة الافضل رغم السواد :
( وعلى بساط النوايا
ارتمى الفجر ..غامر ..
يخلص النور ...
يركبه ظهر أقوى المطايا
تدوس السواد ..
فيضحي شظايا ..
وتعلق القناديل ..نجوما ..
تنير الكون ..تحفزه ...
أن يستفيق
ادحر نعيق الغربان ...
أعد لمدينتك الأمان ..
وعش حرا طليقا )
فنجد ان النوايا ترتمي على الفجر و صوت الحرية ، لتحرر النور و آمال المقهورين ، فيكون شهداء الفجر و الثورة هم القناديل التي تنير الطريق . انها صوت سماوي للمدينة و الكون ان يستفيق و ان يدحر غربان الشر و اعداء الانسان و الحضارة و يعيد الامان و الحرية و البهجة .
حينما يكون الالم شديدا و تكون الوطأة كبيرة و الجرح كبيرا ، حينها يكون الادب المتعالي و النخبوي في حرج ، فتنبثق من رحمه النقية صوت صريح ينادي بالخلاص ، في لغة قريبة، في اشكال و اساليب مختلفة ، و هي في وجودها الواسع الطيف و الساحر تكون في غاية الصعوبة تتطلب قدرات كبيرة لا تتوفر الا نادرا لكاتب حققت له مهارته الفنية و الجمالية القدرة على هذا الشكل الصعب من اللغة .
النص
كان ياما كان
قال الراوي ..
كان ياما كان ..
مدينة للعتمة
يحكمها الغربان ...
فيها تعثّر الفجر
بين الثنايا ...
وكاد يضيع منه الطريق
فاعتلى كثيب الحكايا
يستجلي الحقيقة
ينادي كل رفيق ...
وعلى شعاع الأمل
سبك حصون المرايا
ليلتقط النور ....
به يخفف العتمة
يجلي إحساس الضيق ...
بدت له أطياف مكبلة
والضوء بين السبايا
يرمى في جحر عميق ...
و قد ألبسوه ثوب الرزايا
يميت فيه البريق ..
يا لها من بلايا
تؤذي الفؤاد الرقيق ...
وعلى بساط النوايا
ارتمى الفجر ..غامر ..
يخلص النور ...
يركبه ظهر أقوى المطايا
تدوس السواد ..
فيضحي شظايا ..
وتعلق القناديل ..نجوما ..
تنير الكون ..تحفزه ...
أن يستفيق ....
ادحر نعيق الغربان ...
أعد لمدينتك الأمان ..
وعش حرا طليقا ..

جميلة عطوي








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق