مجلة المرفأ الأخير
العدد السادس لسنة 2019
قراءة تأملية تأويلية في نص الشاعر "فلاح بهادر"
(إعدام شهيد)
بقلم/حسين عجيل الساعدي
(ما أضيق فكري مادام لايتسع لكل فكر)
الاديب اللبناني/ ميخائيل نعيمة
النص/ ـــ
( إعدام شهيد )
يحكى فيما لايكتب
بمجلس قابلة
تغزل بكارة السماء
إن قصيدة اتية .. من هناك ........ هناك جدا
تحمل عري النقاب
تحلم بحبالة ارعن الشعراء
بجوف تسعا وتسعين بيتا .. مئته الخراب
كان في المجلس .. انبياء
يتلون الشعر .. آيات
وكان خلائق الشعراء
ينتظرون القصيدة ...... بعثا
بتابوت موات اللغات
وكان غراب
يرشد لجريمة وقعت ببيت الخليقة
اشياء .. هنا
اشياء .. هناك
ليس لها وجود .. إلإ بخاطر سِكيرٍ
صلى .. بترك اوقات الصلاة
غفى .. يوقظ نافلة الليل
فقضى مافاته من بكارة القابلة
بضحى جنان بيوتات الصفيح
فُقدِت القصيدة ... بولادة شاعر ... خُلِقَ فيم لايُخلَقِ
برحم اللاشيء
تحرك قبر الكون... يحمل السكون .... بتصفيق دفان مشلول الدعاء
القراءة/ ـــ
أعطت (البنيوية) و (ما بعد البنيوية)، السلطة للنص، وأقصاء المؤلف، حيث ينصب تحليلها على بنية النص، والأنفتاح عليه، وكشف خفاياه وفك شفراته، وأستنطاق لغته، وتعدد قراءاته، وبهذا تصبح القراءة عملية إبداعية واعية، يتحرر بها النص من حالة سكونيته إلى ديناميكية في إنتاج قراءات إبداعية متعددة، ويتحول القارئ إلى مبدع لنص اخر. فالقراءة التي تقوم على تفكيك النص، الغرض منها التأويل، يقول "جاك دريدا" (تفكيك الخطابات وفك عرى النصوص للكشف عن الوجه الآخر للأمور)، أحمد عطية، ما بعد الحداثة، ص163.
وإذا أردنا أن نخضع نص الشاعر "فلاح بهادر" الى تلك القراءة، فلا نعده إلا نقطة أنطلاق ليس إلا، لأن هذه القراءة تعد النص (ليس إلا واقعة لغوية، وليس صورة لواقع فيجب أن ننأى بها عن المؤلف والواقع)، ووفق هذه المنهجية النقدية، تكون اللغة دال لا يدل على مدلول، وما على القارئ أو الناقد إلا البحث عن المتناقضات في داخل النص، وأظهار المسكوت عنه، وتجاوز منطق اللغة، الى قراءات لا متناهية، فالذي يريد أن يتجاوز اللغة عليه أن يبحث عن المعنى. لذلك ترى القارئ أو الناقد يرهق نفسه كثيرا في التفكير بحل رموز النص.
ونص الشاعر "فلاح بهادر" وفق مقاسات هذه المنهجية غير متجانس، فيه عوامل بناء وهدم، لأن المدرسة التفكيكية تذهب بالنص الى (الهدم والتقويض لما تبوح به ظاهراً لغة النص)، أي؛ هدم ظاهر المعنى، وكشف أسراره وفك مغاليقه. وعليه تكون قراءة النص، قراءة تأملية تأويلية، ذات رؤية وجودية يقدم بها الشاعر معادلاً فلسفياً لفكرة ذات مدلول شعوري.
الشاعر "فلاح بهادر"، شاعر حداثي متمرد، يجسد في شعره حالة إغتراب الشاعر المعاصر، ووجعه، وأحساسه بالألم والحزن. فأجواء الحزن والألم، تخيم على النص، وكلمات الشاعر "فلاح بهادر" تتفجر من أعماقه المرتبطة بألم الواقع. يحمل الدهشة في أول كلماته، يعلن بها عن موقف فلسفي وجودي دال على كونية الشاعر، نصه بكثافته ودقته أقرب إلى (الشطحات الصوفية)، مشبع بالهاجس الفلسفي الباحث عن معنى الوجود. فهو (ليس النص بالشّيء المغلق على ذاته، بل هو مشروع كون جديد منفصل عن الكون الذي نعيش فيه) "بول ريكور".
عتبة النص/ ـــ
العنوان عتبة النص التي تتمركز في مقدمته، والعلامة السيميائية البارزة فيه، التي يمكن من خلالها فهم النص، والولوج الى عوالمه وتحديد مساراته. إلا أن عنوان نص الشاعر "فلاح بهادر" (إعدام شهيد)، ومنذ الوهلة الأولى، دال يبحث عن مدلول من خلال النص. في البدء لا يشكل مدخل الى سياق النص، بل مكتفياً بذاته، فهو معزول وخارج عن السياق العام للنص، وهو بدون النص يفقد القدرة على توليد دلالته الإيحائية، وبيان مضمونه، ولكن ليس من قبيل الصدفة وجد هذا العنوان، لأن له مدلولات كثيرة، والرمزية فيه لا تشير الى المباشرة، بل مغلفة بالإشارة والتعبير الإيحائي، وهو كنص موازٍ للنص الأصلي، يمكن تأويله، فنرى الشاعر عبر به عن بعض القضايا التي لا يريد البوح بها مباشرة بل بمرموزات معينة.
صاغ الشاعر عنوان النص (إعدام شهيد) بصيغة النكرة. وموضوع التنكير من المواضيع الهامة في البلاغة، وأسلوب أستخدام النكرة له (أرجحية لما يحتويه من معنی لا يمكن التعبير عنه بالتعريف).
يبدأ النص في عنوانه (إعدام شهيد) بثنائية ضدية بين الـ(إعدام) بما يحمله من دلالة الفناء والعدم، والـ(شهيد) بما يحمله من دلالة البقاء والوجود. فيحدث فيه إنزياح في التركيبة من خلال الجمع بين المتناقضات، على منوال ما جاء به "سارتر" في كتابه (الوجود والعدم)، والذي عُرف بـ(إنجيل الوجودية). يحلل فيه طبيعة الإنسان ووجوده، وقدمه في الوجود، وكل ما كان قبله عدماً. هذه (العدمية)، رافضة لقيم سياسية وأخلاقية سائدة في المجتمع أي مجتمع، وهي جزء من ممتلكات الشاعر المتمرد "فلاح بهادر" الفكرية. ولكن هناك عالم أخر غير عالم العدم، وهو الضمير الإنساني الذي يتصف به الشاعر.
الثيمة الأخرى في العنوان (الشهيد)، والشهيد في اللغة (أصْله من الشهود والحضور، وهو على وزن فعيل وفعلها الماضي: شهد أي حضر الشيء ورآه وأثبت صحة رؤيته، سواء كان بالقول أو بالفعل أو بالدم كما في حال الشهداء). وبين مفردتي (الإعدام) و ( الشهيد) تكمن الأشياء، وأي أشياء تلك التي تحمل رمزية الشهيد؟، هل يمكن أختزال ذلك في قضية فرد أم قضية وطن ؟، أيكون (الشهيد) الشاهد على مر تاريخه؟. النص لا ينم عن هاجس الشاعر الشخصي، بهكذا إنزياحات ودلالات وإشارت وإيحاءات كونية، فحين نقف على ثوابت الشاعر "فلاح بهادر" الأدبية والفكرية والمواقف التي يتبناها كقضية، نجده يتبنى قضية (وطن) بكل همومه وأوجاعه، فقد أرتقى بالقضية، وهو يدرك ما معنى وطن، بالرغم (إن الشعر ليس بحاجة إلى براهين وطنية، كما إن الوطن ليس بحاجة إلى براهين شعرية)على حد قول الشاعر "محمود درويش"، من خلال إبراز مشاعره بصورة شكوى. وهذا معنى عميق للنص يأخذنا بعيداً بدلالاته الرمزية التي تعكس ثقافة الشاعر.
النص/ ـــ
أن أول من أرخ هم الشعراء، والشعر فجر الحضارة وأول التاريخ، وما الكتابات القديمة سوى نصوص شعرية. كذلك الشعر أقرب الأشكال التعبيرية للنفس الإنسانية، وهو (إيحاء بالرمز وإيماء بالعبارة)، وتأويله نوع من الحدس النفسي. ولأجل كشف تعبير الشاعر عن معنى النص، ومعنى المعنى فيه، وبيان أسراره ومغاليقه. ينبغي كشف (أنا) الشاعر الغائبة في النص، الذي يمارس فيه تورية يحجب بها ذاته، وما يتكلم عنه، وهذه التورية جزء من حالة القلق والإغتراب، التي تميز شعر "فلاح بهادر" لذلك نراه يبحث عن ملاذ روحي.
اللغة الشعرية للنص مميزة تحتوي صور شعرية مبتكرة تتوافق مع فلسفة الشاعر ومخزونه الفكري والثقافي الواسع، يثير بها القارئ بطرح الأسئلة التي تتفاعل مع النص، نراه يرسل صور شعرية الى القارئ بصيغ مشفرة، هذه الصور تحمل الهاجس الشخصي الذي يريد نقله الى هاجس جمعي.
الخطاب الشعري العربي الحديث، هو خطاب تساؤل، متعدد الدلالات والابعاد، ذات قراءات مفتوحة الآفاق. والديباجة التي وضعها الشاعر "فلاح بهادر" في مطلع النص، شكلت حضوراً كونياً.
(يحكى فيما لايكتب
بمجلس قابلة
تغزل بكارة السماء
إن قصيدة اتية .. من هناك ....هناك جدا)
التاريخ بين المحكي والمكتوب، وعملية الـ(غزل)، وبناء الخلق الأول، تعد من التاريخ المحكي، تواتر عبر عمر الخلق، منذ أنعقاد (مجلس قابلة)، حين (تغزل)، (من هناك... هناك جدا)، قدم الخلق. والسؤال الذي يتبادر الى الذهن، من هذا المخلوق الموغل في القدم؟!! هل هو عمق حضارة وطن شكل بواكير (بكارة السماء) أم ماذا؟!!.
الترنيمة التي تطلق على الخالق وأسمائه الحسنى، وهي مخاطبة المخلوق للخالق،
(تسعا وتسعين بيتا .. مئته الخراب) !!!
وضعها الشاعر بهذه الصيغة كقلادة في جيد (الوطن)، وهو تناص وإنزياح حادان، شكل آثارة إيحائية ينقلها الى المتلقي، وما آلت اليه أوضاع الوطن (مئته الخراب). هذا الإنزياح في النص، شكل بعداً ميتافيزيقياً في النص أمتزج بالكون المرئي، وهو تناص وتوظيف لتراث ديني. فما كان من الشاعر إلا أن يكون خطابه ومقصده يليق بوطن أسمه (العراق).
هذه الحالة الرمزية تخطى بها الشاعر الواقع الحسي إلى إشارات ودلالات تكشف قوة حدسه، التي لايمكن أن تحيط بها اللغة المألوفة بشتى تراكيبها، ولايمكن أن تثير مشاعر الشاعر، وتحكي كل ما يجول في نفسه.
(وكان غراب
يرشد لجريمة وقعت ببيت الخليقة).
الشاعر "فلاح بهادر" شاعر مآزوم ناقم على واقع مآزوم، ووطنه مسلوب الإرادة، يستل الشاعر جانباً من مسيرة الإنسان جسد بها غريزة الشر، في تناوله ظاهرة (القتل) منذ بداياتها الأولى، مستفيداً من الطرح الديني لأول جريمة وقعت على وجه الأرض، هي قصة (قابيل وهابيل) أبني (أدم). وذكر مدلولات تلك القصة، وجعلها في نصه، منطلق لأول فعل أجرامي كوني لقضيته، دعته لإبراز مشاعره التي تجيش في داخله.
( ليس لها وجود .. إلإ بخاطر سِكيرٍ
صلى .. بترك اوقات الصلاة
غفى .. يوقظ نافلة الليل)
عبثية الوجود، حكمت على الإنسان بوجود عبثي، ينشأ من اللامعقول. نرى الشاعر في كتاباته يريد ان يحرر فكره من الحواجز الميتافيزيقية.
(فُقدِت القصيدة ... بولادة شاعر ... خُلِقَ فيم لايُخلَقِ
برحم اللاشيء)
الشيء عند أغلب المتكلمين هو (اسم مشترك المعنى، ويقع على الموجود والمعدوم). أما (اللا شيء)، يعني اللا وجود المرتبط بـالعدم. لان الوجود يعد(ضرباً من العبث)، وهي إحدى المقولات الوجودية عند “البير كامو”.
(تحرك قبر الكون... يحمل السكون .... بتصفيق دفان مشلول الدعاء)
نظراً للتعقيد الساكن في النص، إلا أنه يتسم بوحدة الترابط العضوي والموضوعي، بين دلالة الولادة في مطلع النص، وأنتهاءً بـرحم متحرك يجتاحه السكون (قبر الكون)، و(بتصفيق دفان مشلول الدعاء). وهناك من ينتظر هذه الولادة، وكأن الوطن غادر هذا الكون حين ولادته.
أخيراً الألم الكامن في قلب الشاعر هو الذي صنع هذا النص، فهو نص صوفي مفرغ من المحتوى الميتافيزيقي الديني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق